8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

فرنسوا هولاند.. السلحفاة التي فازت بالسباق إلى الاليزيه

فرنسوا هولاند مجهول من العالم. معروف جيداً من الفرنسيين. لم يلتق مسؤولاً دولياً، لكنه التقى دائماً الفرنسيين، خصوصاً الاشتراكيين منهم. أعدّ نفسه طويلاً لهذا اليوم العظيم الذي يدخل فيه قصر الاليزيه رئيساً. حصل أولاً على أعلى الشهادات في العلوم السياسية والدراسات الاقتصادية العليا ومعهد الإدارة الوطني ENA، مصنع السياسيين والإداريين الكبار في فرنسا. تجنّب إخفاء الأسرار عن حياته، فكشف باكراً أنّ والده كان يمينيّاً من مؤيّدي الجزائر فرنسية، حتى لا يبتزّه أحد، كما ابتزّ اللوبي اليهودي فرنسوا ميتران بسبب سرّه حول علاقته مع الجنرال بيتان. لذلك أيضاً يُقال إنّ هولاند هو أول رئيس للحزب الاشتراكي ليس مديناً في صعوده للوبي اليهودي القوي داخل الحزب. عرف الاليزيه، غرفه ومكاتبه ودهاليزه عندما اختاره جاك أتالي عضواً في مكتبه بعد فوز فرنسوا ميتران بالرئاسة عام 1981.
لم يبق سوى سنة واحدة في الاليزيه. لم يحب سيد القصر الملك الرئيس فرنسوا ميتران رغم التزامه به باكراً، فقد أسّس ورأس، وهو طالب هيئة من الشباب الاشتراكي لدعم ميتران عام 1974. طبيعي جداً موقفه الذي لم يخفه، لأنّه نقيض ميتران، واقعياً، هولاند الرئيس السابع في الجمهورية الخامسة لا يملك أبداً الثقافة الملكية للرؤساء الذين توالوا بعد شارل ديغول.
رغم مساره الطويل في إعداد نفسه لم يضع يوماً أوراقه على الطاولة، ولم يقدّم نفسه مرشحاً محتملاً للرئاسة. استثمر وضع طموحه بالظل، في عدم الدخول في معارك جانبية، مما جعله يكسب مودة واحترام الفيلة في الحزب الاشتراكي.
طموح فرنسوا هولاند بقي دائماً خفياً، لم يكن نمراً هائجاً. اختار أن يكون تنيناً هادئاً. كان يُوصف أحياناً بأنّه رخو ويصدّق الكثيرون ذلك. في الحقيقة، كان دائماً قوياً شجاعاً وذكياً.
ليونيل جوسبان العاثر الحظ، هو الذي اكتشفه، فأخذه من الاليزيه إلى الماتينيون قصر الوزير الأول، حيث أصبح بسرعة سوبر ناطق رسمي ومن ثم مستشاراً مسموع الكلمة عند جوسبان، إلى درجة أنه قال عنه يوماً: إنّه الأفضل. الألمع والأكثر تجلياً بحسّ سياسي داخل الحزب. من فرائد العلاقات، أنّ هولاند ثأر اليوم لمكتشفه جوسبان، الذي انسحب من الحياة السياسية بعد خسارته أمام جان ماري لوبن زعيم اليمين المتطرف. لم يخفِ جوسبان فرحه بهولاند. جاء سريعاً إلى التلفزيون لوضع نفسه، بعد أن غاب طويلاً عن المسرح السياسي، في خدمة تلميذه، دون أن يعني ذلك طلباً لأي دور أو منصب، فهو لن يعود بعد أن ترك سفينة الحزب الاشتراكي في أعالي البحار بعد هزيمته.
فور انسحاب جوسبان وتشتت الحزب، تقدم هولاند الصفوف ليتولى زعامته في مؤتمر ديجون ومن ثم مؤتمر مان. الطريف في هذا المسار، ان فيلة الحزب وعلى رأسهم لوران فابيوس أصغر وزير أول سنّاً والمرشح الاول والدائم لرئاسة الجمهورية، التقط قدرات هولاند وتصميمه وذكاءه. رأى فيه مساعداً له. كان دائماً يقول لـالفيلة ولهولاند نفسه انه متى انتخب رئيساً للجمهورية، فإنّ هولاند سيكون وزيراً أول لديه. الدنيا خصوصاً في عالم السياسة دولاب. اليوم طموح فابيوس أن يسمّيه هولاند وزيراً للخارجية في حكومته الأولى.
الحظ ساعد هولاند كثيراً. المرّة الأولى عندما دفعه خروج جوسبان إلى رئاسة الحزب. المرّة الثانية عندما أبعد دومنيك ستراوس كان من الترشح عن الحزب الاشتراكي للرئاسة، وكان الأقوى، بسبب فضيحة نفيسة ديالو في نيويورك. انتخبته القاعدة الحزبية رغم انه يمثل ما يطلق عليها الاشتراكية الرخوة وفاز على منافسته الأولى مارتين اوبري، ابنة جاك ديلور الذي يُعتبر الأب الروحي لهولاند. أيضاً ساعد الحظ هولاند في هذه المعركة الانتخابية. خصمه الرئيس المرشح نيكولا ساركوزي ، هُزم منذ دخل الاليزيه ثم كرّس هزيمته مع بدء الحملة الانتخابية. لم يحب الفرنسيون طريقة حياة ساركوزي- الرئيس ولا طريقة قفزه من ضفة إلى ضفة بسرعة صاروخية، ولا طموحه للعب في ملعب الكبار والعظماء بعد أن تبين لهم ان إمكاناته محدودة. أيضاً وهو الأهم أنّ القاعدة الواسعة من اليمين خصوصاً من الديغوليين الارثوذكس والجدد، لم يتقبلوا، ورفضوا زحفه أمام اليمين المتطرف لكسب أصواتهم، بعد أن شنّ حملة أدّت إلى تدمير التحصينات الايديولوجية التي قضوا عشرين عاماً في بنائها أمام هذا اليمين المعادي للجمهورية. هذا الخطأ الخطيئة هو الذي يفسّر دعم الرئيس السابق جاك شيراك الخفي له.
لا شك ان فرنسوا هولاند حقق فوزاً نظيفاً لكنه ليس كاسحاً، في فترة تعيش فيه فرنسا ومعه أوروبا كلها على وقع أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة وواسعة بسبب انتشار البطالة والتضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطن وعدم تنفيذ سياسة استثمارية شاملة تعيد فتح الأبواب أمام نهوض اقتصادي. يجب أن يكون لهولاند سياسة فعلية وبرنامج قوي لمواجهة هذه الملفات. في البداية يجب أن يحصل على اغلبية برلمانية مريحة وداعمة له في الانتخابات التشريعية المقبلة في نهاية حزيران.
يقول خصومه انه لا يملك تجربة تنفيذية لأنه لم يعيّن يوماً وزيراً. يردّ أنصاره أنّ ثلاثة رؤساء حكومات ناجحين هم: طوني بلير وجوسيه زاباتيرو، وغيرهارد شرودر تزعّموا أحزاباً ولم يدخلوا الحكومات.
أمام فرنسوا هولاند ملفات عديدة بعضها يتعلق بأمن فرنسا الاستراتيجي وبعضها الآخر بصورتها في العالم. أمام هولاند ملف افغانستان وما وعد به بسحب قواته في نهاية هذا العام، وملفات التفاهم أو البرودة مع ألمانيا وروسيا، وبناء علاقات ثقة مع الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً إذا ما أعيد انتخاب باراك اوباما رئيساً لولاية ثانية بعد أن جعل نيكولا ساركوزي هذه العلاقة ترقص على وقع خصوصية شخصيته وشخصانيته مع الآخر. ايضاً أمامه العلاقات مع الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، بعد أن اجتاح الربيع العربي هذه الضفة، وعلى رأسها سوريا. لم يتكلم هولاند في السياسة الخارجية كثيراً. الحدث السوري فرض نفسه عليه، فوصف النظام السوري بـالحقير مؤيّداً التدخل العسكري إذا كان دولياً وأطلسياً. على هولاند أن يتعلم في هذا المجال الكثير وبسرعة، لأنّ عليه اتخاذ قرارات حاسمة.
فرنسا ومعها أوروبا بحاجة لانتشار حالة من الأمل، وعلى هولاند الرئيس الجديد حتى ينشر الأمل أن يحل الكثير من المعادلات القديمة والوليدة، خصوصاً وانّ الانتصار يفتح على كل الاحتمالات، بما فيها جعل الهزيمة ممكنة.
[email protected]

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00