بسلام غادر الزميل سليمان رياشي تاركا بجانب السرير نظارته السميكة و مجموعة كتب لم يمهله القدر قراءتها. السيجارة رفيقته الدائمة التي يمجها من دون أن يشعلها لزوم أوامر الطبيب، وكان يمازح السائل عنها بين يديه: توقع الأطباء أن أموت بمرض القلب، فنجوت لأصاب بسرطان الحنجرة، وكذلك نجوت، ومن بعدها تنقلت الأمراض في جسدي الى درجة أني سألت الطبيب: في منطقة فيّ بعد ما اشتغلتو فيها ".
في إصابته الأخيرة قبل عام بسرطان الدماغ أدرك أنه قد لن ينجو هذه المرة، فاختار وداع الزملاء من خلال مقعد نقال برفقة ابنه فهد. كانت الدموع في عينيه بينما يودع الصحيفة التي أمضى بين جدرانها نحو 20 عاما، ومع ذلك لم يتخل عن عادته في أن يكون أبا للجميع ، ينصح، يسأل عن الاحوال، يتابع التفاصيل الصغيرة، وفي آخر كل مشوار لا يفوته أن يوزع الشوكولا من جيبه على الزملاء : هذه لك وهذه لهيام، وهذه للارا، وهذه لحسان، وهذه لنبيل..ومن لا يكون حاضرا يترك حصته أمانة ممازحا:"إذا جعتو بتاكلو شي غير هالأمانة".
في رثاء سليمان ابن زحلة، أو القائد سعيد عبدالهادي، وهو الاسم الحركي له كمناضل ومفكر أعطى عمره للثورة الفلسطينية، تصعب الكتابة عنه من دون تقديم صورة شفافة عن الأب والحاضن لعشرات الصحافيين الذين ماكان يسمح لهم أن يكونوا على الهواء من دون جلسة الاستجواب التي تؤكد له بأن تلاميذه جاهزون بالفعل و"بيبيضو الوج".
هكذا كان سليمان الكاتب والباحث والمناضل والأب الذي لم يسع يوما الى منصب أو وجاهة: حنون، متواضع، أشبه بموسوعة، قارئ نهم، جسور، وبصير في تحولات الدول والشعوب من خلال شغله مناصب رفيعة منها عضوية المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، الى جانب كونه أحد مؤسسي الجبهة.
وإلى جانب مؤلفاته في الفكر والسياسة، كان مترجما للعديد من إصدارات مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بليغا في لعبة الكلمات وتعريبها وتحويرها بما يخدم الفكرة، قبل أن يتقاعد معلقا في أيامه الأخيرة قبل أن يغدو الكلام متعذرا وصعبا عليه:"بالتقاعد كل شي بيتغير. بيصير الواحد خلقو ضيق. بيختلف مع الكل لان بيعرف انو الخضرجي بيكذب بالميزان، والقهوة بالقهوة مش طازة، وبيعرف إنو الكل بيكذب عالكل بس القصة لما كنت بحياة الشغل والنضال ما معي وقت قول للأعور إنو أعور. كنت إمسحها بمزحة . ما أسمجك يا تقاعد بتفرجينا الحياة على حقيقتها".
سليمان في وداعك تعلمنا أن لا نستسلم وأن نبقى على الوعد في أن نلتهم العلم والكتب والابحاث والدراسات مع كوب القهوة الصباحية.
رحلت وبقي كتاب مكسيم غوركي في عهدتي. قلت بأنه ليس إهداء وإنما "عيرة" لأعطيك خلاصة حياة موجودة في الكتاب. اسمك الحركي" سعيد" موجود على الصفحة الأولى من الكتاب، ونبهتني:"بهذه الطريقة احرص على عدم ضياع كتبي". كنت سعيدا لأنك حققت حلمك أخيرا في أن تكون لك مكتبة عملاقة في منزلك بعيدا عن الصناديق التي أكلت الرطوبة بعضها. أنجزت مكان الكتاب الأخير ثم وضعت الخاتمة لذلك القائد الكاثوليكي ابن زحلة، والذي تزوج من ابنة الزيات الجنوبية، وأفنى عمره في حب فلسطين.
نفتقدك كثيرا أيها الزميل المغوار في الحياة كما في المرض والموت.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.