حلب تحترق. إحراق حلب التاريخية، جريمة ضدّ الإنسانية. الحارق والمشارك والصامت والمتكافل والمتضامن، كلهم شركاء في الجريمة. يبقى الرئيس بشار الأسد هو المسؤول الأوّل والكبير عن هذه الجريمة. شيشنة سوريا، سياسة ينفذها الاسد. الوريث لن يسلّم ما ورثه إلاّ قاعاً صفصفاً. لا يتردّد ولا يتراجع الأسد عن ارتكاب أي جريمة حتى يبقى إلى الأبد. ورث عن والده سوريا وأيضاً عبقرية التدمير طريقاً إلى الانتصار. لا توجد خطوط حمراء من أجل الحفاظ على السلطة. الأسد الأب لاحق الشهيد ياسر عرفات، وأكمل المهمّة التي عجز الإسرائيليون عن تنفيذها كاملة في غزو 1982. غادر أبو عمار طرابلس في سفينة فرنسية، وعاد الأسد وقوّاته إلى لبنان. كل حدث وقع في لبنان، كانت وراءه العبقرية الأسدية في التدمير والمقايضة. الابن ورث عن والده هذه العبقرية. آخر ما كُشف من فنون المقايضة الأسدية، بيد الأسد الابن لصديق والده وصديقه العقيد معمر القذافي. قايض الأسد هاتف القذافي السرّي، بموقف معتدل منه من نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق، الذي سرعان ما اكتشف هول خداع الأسد له، فقفز من ضفة إلى ضفة بسرعة صاروخية، وكان العداء الذي تعمّق مع انتقاله إلى الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولند.
موسكو وطهران وبكين مسؤولة عن إطالة عمر جرائم الاسد وهي بشكل أو بآخر شريكة معه. لكن هذه الشراكة لا تكفي لتفسير صمود الأسد وبقائه. واشنطن وتل أبيب ليستا عاجزتين عن نطق الحكم بإزاحة الاسد. ما زالتا تماطلان. واشنطن بحجّة الانتخابات الرئاسية، وتل أبيب لأنّها تريد نظاماً يضمن السكون في الجولان كما فعل الأسد الأب والأسد الابن. تركيا لبست ثوب السلطان محمد الفاتح، ولم تملك سيفه، لتفعل ما تقوله، ضمناً تريد ضمانات أميركية ما زالت بعيدة. موقف فرنسا وألمانيا وبريطانيا، قوي ضدّ الاسد، لكنه موقف العين بصيرة واليد قصيرة. يقول الفرنسيون علناً ما يقوله الآخرون سرّاً وهو: دون موقف أميركي واضح وتنفيذي، لا يمكن عمل شيء أكثر من تقديم بعض المساعدات اللوجستية والإنسانية. أما عن الموقف العربي فحدِّث ولا حرج.
عودة مصر، تنعش الجسم العربي. مصر قادرة على المبادرة، لكن القاهرة ما زالت متردّدة بين طموحات إخوانية مفتوحة على واقع يتغير لمصلحتها، وقيود لم تتحرّر منها لأنّها قديمة قدم السياسة المباركية التي كانت تجد في عدم اتخاذ المواقف موقفاً. الرئيس محمد مرسي بحاجة إلى موقف عربي داعم وليس منافساً له. مصر هي الدولة العربية الوحيدة القادرة على المبادرة عسكرياً إذا ما تقرّر ذلك دولياً. ليس المطلوب الحل العسكري. تشكيل قوّة عربية على غرار قوّة الردع العربية التي دخلت لبنان ثمّ تحوّلت للأسف إلى قوات سورية انفردت بحكمه ومصيره، هو أحد الحلول الممكنة.
أبرز ما يجري حالياً في هذه الفترة الانتقالية التي تنتهي حكماً في 4 تشرين الثاني بعد أن يتم انتخاب الرئيس الأميركي، أنّ مسارات عديدة تُرسم حالياً. لم تكتمل الخريطة، لكن من الواضح أنّ خطوطها تتقاطع عند مفترق واحد وهو رحيل الأسد ونظامه. سيقاتل الأسد في هذه الفترة بكل قوّته وقوّاته. لن يعنيه كثيراً أن تحترق دمشق وسوق الحميدية معها بعد إحراق حلب. من المؤلم أن تتعرّض حلب ودمشق للحريق. لكن ايضاً لو وقف أهالي حلب ودمشق منذ البداية موقفاً موحداً مع باقي الشعب السوري وطالبوا بالتغيير، لما استطاع الأسد الصمود أسابيع وليس 19 شهراً. استقواء الاسد بموقف أهالي دمشق وحلب، سواء دعماً له أو كرهاً بالثوار القادمين من الأرياف أو حاملي العلم السلفي وفكرهم الظلامي، منحه حجّة الشرعية الشعبية، للبقاء.
حتى طهران بدأت تفقد الأمل من صمود الأسد. قدّمت له أكثر مما تستطيع. لم يعد بمقدورها تقديم الكثير. يمكن لطهران الاستمرار في دعم النظام الأسدي بالخبرات العسكرية وبالعتاد، لكن امكاناتها المالية تتراجع بقوّة. انهيار التومان بسرعة فاقت توقعات الخبراء، تحول دون متابعة سياسة الضخ المالي للأسد. قفز سعر الدولار عن الثلاثة آلاف تومان أو ثلاثين ألف ريال نتيجة للوضع الاقتصادي السيئ. الحصار والمقاطعة اختصرا فترة الانهيار مائة يوم. لم يعد أمام طهران سوى البحث عن مخرج لها للمشاركة في حل سياسي. ثبوت وقوع الخلاف بين قيادات من الحرس الثوري والمرشد آية الله علي خامنئي (كانت المستقبل قد نشرت تفاصيله في 18/9/2012) حول الفشل العسكري في سوريا، سيدفع المرشد آية الله علي خامنئي الى مراجعة موقفه، خصوصاً وأنه وضع إيران في ضفّة بمواجهة الشعوب العربية والأخطر في مواجهة تنظيم الاخوان المسلمين الذي تسلّم السلطة من أنقرة إلى القاهرة مروراً بتونس وغزة.
حريق حلب، جرح عميق عمق التاريخ الذي صنع هذه الحضارة. لكن من المؤكد أنّ تضحيات الشعب السوري لن تذهب مع الريح. نار حلب أكلت حضارتها، وهي لا بد ستحرق الأسد الذي شيشن سوريا ليبقى هو أو لا أحد.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.