الجنرال ديفيد بيترايوس ليس جنرالاً عادياً. لم يحصل على نجومه الأربع لأنه قريب من الرئيس أو لأنه قريبه،
صعد بيترايوس السلّم من تحت. اجتهد والحلم الأميركي حلّقه. ابن المهاجر الهولندي نجح في إثبات كفاءته خصوصاً على صعيد رسم الاستراتيجيات الناجحة والمنتجة. لم يهادن ولم يراعٍ الرئيس عندما كان يرى غير ما يرى الرئيس باراك أوباما في افغانستان. لم يغضب الرئيس وينزع نجومه، بالعكس استحق الترقية واصبح لاحقاً مدير المخابرات المركزية وكان أمامه المزيد من الترقيات الى درجة أن دخل اسمه لائحة المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة . كل هذا لم يرحم الجنرال عندما أخطأ. استقال فوراً. لن يمضي وقت طويل إلا ويدخل الجنرال عالم النسيان. الفشل في الدول مثل الولايات المتحدة الاميركية لا يرحم. لم يخسر الجنرال بيترايوس الحرب، ولم يفشل في إدارة اكبر جهاز مخابرات في العالم. الجنرال فشل في إدارة حياته الخاصة. أقام علاقة مع إمرأة خارج الزواج.
في دول اخرى هذه العلاقة تبدو عادية، وفي مجتمعات في عالمنا تبدو طبيعية. الأهم من ذلك كله ان مدير المخابرات ليس فوق المراقبة والملاحقة والمساءلة، بهذه المراقبة يتم الحد، لدى اي مسؤول مهما علا شأنه، من ان يتكبر او يتجبّر او يستغل نفوذه ويستثمره لشخصه. لا احد يعود يخاف من احد. الجميع سواسية امام القانون. بهذا تتقدم الدول وتتطور. طبعاً لا يعني ان هذه ثابتة، بالعكس تقع حوادث كثيرة وأخطاء عديدة وكبيرة وينجح أصحابها بالتهرب من المساءلة والعقاب، لكن ذلك هو الاستثناء وليس القاعدة. العكس صحيح في دولنا ومجتمعاتنا، لذلك تتراكم الاحداث وتولد الإحباط الى حين، حتى اذا انفجرت كان انفجارها بركانياً. امتزاج الربيع العربي بالعنف الدامي نتيجة موضوعية لكل ما سبق. وليس كما يحاول البعض تصويره بأن شعوبنا تحب القمع والخضوع للسلطة وان الخوف دائماً من ان يكون البديل أسوأ من القائم ولذلك تستمر اللعبة كما كانت دائماً.
أبراهام لينكولن لو لم يُغتل لما بقي في الرئاسة اكثر من دورة ثانية رغم انه بإجماع المؤرخين الأميركيين افضل واعظم الرؤساء الذين دخلوا البيت الابيض. باراك أوباما لن يبقى رئيساً يوماً واحداً بعد نهاية ولايته حتى لو قفز الاقتصاد الأميركي مئات المرات الى الامام. اوباما يعرف والشعب الأميركي يعرف. المداورة في السلطة تجعل التغيير جزءاً طبيعياً من الحياة السياسية. لكل فرصته على الصعيدين الشخصي والفكري، لذلك لا تقع الانقلابات ولا تحدث انفجارات شعبية بركانية.
عندما يبقى حسني مبارك ثلاثين سنة في الرئاسة وعلي عبدالله صالح أيضاً ثلاثين سنة ومعمر القذافي أربعين سنة وحافظ الاسد ثلاثين سنة ويؤثر السلطة لإبنه بشار ويصبح فارس العرب في عشر سنوات وتكون فضيلة كل هؤلاء الاستقرار ولو بالنار والحديد، يجب عدم السؤال لماذا اختارت هذه الشعوب كلها الثورات ومنها ما يكاد يقع في مستنقع الحرب الاهلية. مثل هؤلاء الرؤساء ومثلهم عديدون في عالمنا وعوالم اخرى، بنوا دولاً ومؤسسات على قياسهم ورغباتهم بالبقاء في السلطة الى الأبد، لذا يتدرّج الفساد والاستقواء على الآخر من القمة الى القاعدة.
في لبنان كل شيء يشير الى انه بعيد عن تسونامي الربيع العربي. ربما يعود في جزء منه الى التداول المحدود للسلطة والتوازنات الطائفية القائمة. لكن أيضاً خشبة الخلاص هذه ساهمت وأنتجت احياناً الشعور بالاستقواء لأن اي مساءلة تصيب التوازنات الطائفية فتتحول الى حماية تعمق الفساد وكل الامراض القاتلة التي يعاني منها كل اللبنانيين.
عندما يتاجر مسؤولون بصحة الناس ويعرضونهم للقتل البطيء، وينجون من العقاب لأن طائفتهم تحميهم، وعندما تباع مواد غذائية فاسدة وتضيع المسؤولية، وعندما يحتال احدهم على الآلاف من الناس العاديين ويسرق منهم تحويجة عمرهم بمئات الملايين من الدولارات ويعمل حُماته على عدم تقديمه الى المحاكمة، وعندما يتم تعيين عديمي الكفاءة وحتى الذين لهم ملفات في مناصب لخدمة زعيمهم يسود الإحباط. لا يستطيع احد ان يدعي العفة من كل الطوائف والقوى المختلفة. الجميع كما يقال تحت السكين وليس فوقها.
الربيع العربي ربما بعيد عن لبنان. لكن كل ما بُني على باطل باطل. ما يحصل في لبنان اخطر من اجتياح الربيع العربي. الشباب يهاجرون الى درجة ان الأهل يتحسرون على مشاريعهم العائلية. فأولادهم ليسوا لهم، ومن يبقى ينحو نحو التطرف المذهبي ونحو مزيد من الالتصاق بزعيمه مما يضع كل السلم الاهلي دائماً فوق برميل من البارود.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.