استشهاد العسكريين في عرسال، عدة جرائم في جريمة واحدة. بداية، قتل أو جرح جندي أو ضابط، هو جريمة مضاعفة تستحق عقاباً قاسياً يكون درساً لكل من تسوّل له نفسه الإساءة إلى الجيش اللبناني. أيضاً تحويل حادثة غامضة في تفاصيلها إلى قميص عثمان لتسوية حسابات بعضها داخلي وأكثرها خارجي هو أيضاً جريمة خطيرة لأنها تمس وحدة لبنان في زمن مطلوب فيه تحصينه وحمايته أمام تساقط كرات النار عليه من خارج الحدود.
الدخول في تفاصيل الحادثة الدامية في عرسال لا ينتج غير المزيد من الأسئلة التي إجاباتها ستبقى ضبابية أو ملونة بألوان سائليها. لذلك يجب معالجة الأسباب والنتائج وليس الغرق في مستنقع التفاصيل التي يكمن فيها ألف شيطان وشيطان.
ملاحقة قتلة النقيب بشعلاني والمؤهل زهرمان حق طبيعي لا جدال حوله، والقبض على المجرمين الحقيقيين واجب، وأهل عرسال قبل غيرهم يؤيدونه ويطالبون به. لكن أن تتحول عرسال قبل أن تجف دماء الشهيدين والقتلى الآخرين المجهولين مهما كان عددهم وهوياتهم إلى متهم مدان ومطلوب للمحاكمة، فهذا مرفوض بلا تردد، ليس من أهل عرسال وحدهم، وإنما من أهالي منطقة بعلبك - الهرمل قبل غيرهم.
عرسال، ليست إمارة، ولا بلدة عاصية على الدولة. عرسال، كانت وما زالت مقلعاً للرخام وللرجال، الرجال. منذ أكثر من نصف قرن وعرسال تشكل خزاناً بشرياً للثورات والمقاومة، قوائم الشهداء فيها تدل عليها، من ثورة 1958 مروراً بالحرب الأهلية وصولاً إلى المقاومة الوطنية. أكثر من ذلك، عرسال خزان استراتيجي للجيش، شاءت هويتها والفقر الذي انتشر فيها حتى ظهور مقالع الرخام وفتح سكك التهريب إلى سوريا مع كل القوى العسكرية والأمنية السورية أن تجد في الجيش مكاناً طبيعياً لأبنائها، حتى الآن لعرسال ثلاثة آلاف جندي في الجيش، لذلك تستطيع أن تقول لكل القرى والمدن اللبنانية من كان مثلنا في هذا فليرشقنا بحجر عدم الولاء للمؤسسة العسكرية.
أمام هذا الواقع والوقائع، فإن القول بأن أهل عرسال لم يقتلوا الشهيدين لولا التحريض على المؤسسة العسكرية، مردود جملة وتفصيلاً. لأن لا أهل عرسال قتلوا ولا هم تلقوا تسونامي التحريض بصدور مفتوحة.
التوتر والقلق وحتى الخوف موجود. لا أحد ينكر أن موقع عرسال كما بريتال لأسباب متعددة حولت الجبل الشرقي إلى سكة على خطين للثورة السورية. ولذلك فإن النظام الأسدي يريد ضرب هذا الجبل بأي طريقة حتى ولو أشعل فيه حرباً مذهبية.
محاصرة عرسال من محيطها عبر قطع الطرقات بالدواليب المشتعلة، هو بلا مواربة، عملية رمي زيت المذهبية على النار الكامنة. يجب منع هذه التظاهرات التي يراد بها باطل. حزب الله الذي يكرر ليلاً ونهاراً بأنه ضد التسعير المذهبي ومع وحدة المسلمين، تقع عليه المسؤولية أولاً وأخيراً في منطقة بعلبك الهرمل. على حزب الله إحاطة عرسال بانتباهه وليس محاصرتها والتضييق على أبنائها. في بعلبك ليس داء المذهبية وحده الخطر. بينما الثأر العائلي أخطر منه بكثير. دفع الخلاف مع عرسال لأنها ضد النظام الأسدي إلى دائرة الصدام يفتح منطقة بعلبك باتجاه النار التي لا يستطيع حزب الله تجنبها. ليس أهل عرسال وحدهم من يقفون طرفاً في ما يحدث في سوريا. وإذا كان أهل عرسال أو معظمهم يقفون مع الثورة فإن حزب الله يشيع أسبوعياً ضحاياه الذين يسقطون في ما يسميه الجهاد. بهذا لا أحد أفضل من أحد. ومن الأفضل تجنب الاحتكاك مع النار الكامنة.
أيضاً وهو مهم جداً، إن الشيعة في لبنان لديهم مثل اللبنانيين عدواً مشتركاً هو إسرائيل، لكن يوجد فرق بين الجنوب وأهله الذين هم على مواجهة يومية مع إسرائيل لن تنتهي قبل أن يشعر كل جنوبي أن أمنه واستقراره مضمونان، بينما أبناء بعلبك الهرمل بكل طوائفهم خصوصاً الغالبية منهم وهم الشيعة محكومون جغرافياً قبل أي شيء آخر بالأخوة مع سوريا والسوريين، لذلك فإن أهل المنطقة لا يستطيعون إلا أن تكون إيديهم ممدودة ومتعاونة مع أشقائهم السوريين مهما كانت هوية النظام فيه، لذلك فإن حزب الله يملك حرية دعم النظام الأسدي بعيداً عن موقفنا منه, لكنه لا يملك مطلقاً تحويل هذا الدعم المربوط بانتصار موهوم لهذا النظام مشكلة، لأن ذلك سيخلق ارتدادات على أهالي المنطقة مستقبلاً هم بغنى عنها طالما أنه يمكن تجنبها ببعض الحكمة والدراية.
أيضاً وهو من سياق هذه المرحلة الزئبقية، محاصرة عرسال واستثارة المذهبية في وقت يتم فيه طرح المشروع الأرثوذكسي للانتخابات يؤكد حجم الخطر الذي يحيق بلبنان. كل قرية مثل عرسال ستتحول حكماً إلى جزيرة مذهبية على انقطاع مع محيطها. ولا شك أن خطر هذا المشروع الذي يرغب النظام الأسدي تنفيذه حتى تتم فكفكة لبنان نهائياً، ويسهل عليه فرض نظام الطوائف على سوريا حفاظاً منه على موقعه، تبدو إثارة واضحة حتى ضمن العائلة الواحدة. صديق درزي قال لي: أنا متزوج من شيعية وأخي من مارونية وأخي الثالث من سنية، بحسب المشروع الأرثوذكسي يجب أن نقترع في أربعة صناديق.
عاقبوا المجرمين كائناً من كانوا في هذا الاعتداء وفي اعتداءات أخرى وقعت، لكن لا تعاقبوا عرسال، ليس خوفاً من قيام إمارة عرسال وإنما تحصيناً للجيش ولوحدة لبنان.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.