الجمهورية الإسلامية في إيران، اليوم، أقوى بكثير من إيران الشاهنشاهية. قبل 34 سنة كان حلم الشاه محمد رضا بهلوي، أن تكون بلاده شرطي الخليج تحت المظلة الأميركية. الجمهورية الإسلامية اليوم ليست شرطياً لحساب أحد لكنها حاضرة بقوّة أكبر وهي تطمح لأن تلعب لحسابها ضمن عالم تغيّرت فيه موازين القوى بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفياتي، ووقوع حربي أفغانستان والعراق، وتحوّل الربيع العربي إلى أعاصير من المبكر جداً تحديد التغيرات والمتغيرات التي يحملها إلى منطقة الشرق الأوسط.
إذا أُخذ بالبيانات الإيرانية كما هي، فإنّ إيران متقدّمة علمياً وتكنولوجياً، وهي تقف على خطوات قليلة من امتلاك القوة النووية، وخطوات أقل من تصنيع صواريخ تغزو بها الفضاء، ولديها جيش وحرس ثوري حاضران بقوّة عديداً وتسليحاً. الأهم أنّ السلّة الإيرانية مليئة بالملفات التي لها وزن في الشأن الإقليمي، من أفغانستان إلى سوريا. على طول هذا الحزام، لإيران وجود يؤهلها للجلوس إلى طاولة القوى الإقليمية الكبرى. مشكلة النظام أنّه يريد موقعاً على المستوى الدولي تطالب القيادة الإيرانية به واشنطن أولاً وموسكو ثانياً، أي الاعتراف به قوة كبرى على قاعدة أن العالم يعيش إعادة تشكّل واسعة وعميقة تقوم على تعدّدية القوى وليس كما هو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي آحادية القوة.
الخطاب الايديولوجي الثوري لإيران، لم يتغيّر تقريباً. إسرائيل سرطان يجب اقتلاعه، الولايات المتحدة الأميركية ما زالت الشيطان الأكبر. لكن لم تعد توجد خطوطٌ حمرٌ للتحاور معها أو معه. ما زالت إيران، المحور في محور الممانعة والمقاومة، وهي تعمل في وقت يشتد الهجوم عليها في عقدة اخيل المحور أي سوريا، إلى مدّ تحالفاتها إلى مصر وعلاقاتها إلى أميركا الجنوبية.
كل هذه النجاحات لم تكن لتتم لولا تضحيات إيرانية كبيرة وشاملة، تعتمد على مبدأ عدم اعتماد مقياس التكلفة والأرباح. لا بأس أحياناً أن تكون الكلفة أكبر من عائدات الربح، مَن لديه صبر الذبح بالقطنة يمكنه التعويض عبر الأخذ بسياسة تراكم الأرباح على المدى الطويل.
سوريا مثال كبير للسياسة الإيرانية، نجحت القيادة الإيرانية، في دمج بشار الأسد في استراتيجيتها. أثبتت التطورات وخصوصاً الغارتين الإسرائيليتين على الموقع النووي ومركز الأبحاث والدراسات أنّ سوريا تحوّلت إلى عُمق ميداني استراتيجي نقلت إيران إليه العديد من ممتلكاتها العسكرية والعلمية والتكنولوجية، أيضاً العراق، لم تحصل إيران عليه كله، لكنها وضعت يدها على ثلثه الشيعي ومدّت خطوطها إلى الثلث الكردي. نالت طهران، بلا شك أكبر حصة من قالب الجبنة العراقي، حتى بدا الأمر وكأنّ الرئيس السابق جورج بوش أشعل الحرب في العراق، ليخسرها وتربحها إيران. حتى أفغانستان، تعاونت إيران مع الأميركيين في بداية الحرب بعد أيلول 2011، ثم مدّت يدها إلى خصمها الايديولوجي أي حركة طالبان فجمعت الضدّ مع ضدّه، وكسبت موقعاً لها في وقت تستعد فيه القوّات الأميركية للانسحاب.
عودة إلى الأرض بعد الصعود إلى السماء. إيران اليوم تعيش على وقع سلسلة من الأزمات الداخلية والخارجية. ما أهمية أن تربح دولة مثل إيران الفضاء وتخسر الأرض. الوضع الاقتصادي صعب جداً، انهيار التومان، أكثر من كارثة. في أقل من ثلاث سنوات ونصف خسر التومان في مواجهة الدولار كل قوته. كان الدولار يساوي أقل من ألف تومان، حالياً كل دولار يساوي أربعة آلاف تومان، ارتدادات مثل هذا الانهيار على مختلف الطبقات خصوصاً الوسطى منها، هائل. اللبنانيون والعراقيون خَبِروا مثل هذا الانهيار ومفاعيله الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. التضخم تضاعف، البطالة تتزايد، كل يوم جديد يمر بسلام، من دون انفجار الشارع الإيراني يُعتبر انتصاراً للنظام. السؤال إلى متى يصمد الشارع الإيراني ولا ينفجر، أو إلى متى تتضامن القوى المشكّلة للنظام ولا تنفجر كما حصل في الاتحاد السوفياتي، فانهار نهائياً وتفتّتت الامبراطورية لتبقى روسيا.
في الاتحاد السوفياتي، كان الصراع بين القوى المشكّلة للنظام داخل الحزب الشيوعي قوياً، لكنه لم يكن علنياً. في إيران اليوم الصراع مكشوف، ضُرب علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى بأقراص الصلاة والأحذية في قم يؤشر إلى عمق الأزمة، ليس على صعيد مَن يخلف أحمدي نجاد فقط وإنما أيضاً مَن سيخلف المرشد آية الله علي خامنئي، لأنّه إذا كان الصراخ مسموعاً في طهران، فإنّ عباءة المؤسسة الدينية في قم قادرة حتى الآن على إخفاء النقاشات الحادّة حول خلافة المرشد من جهة والمرجعية في النجف من جهة أخرى.
تحوّل بيت المحافظين إلى عدّة بيوت متنافسة ومتصارعة يهدّد الجمهورية. حتى أركان النظام يقولون اليوم ذلك. أيضاً إقصاء الإصلاحيين في زمن الأزمات المفتوحة تهديد كبير. وإذا ما أضيف إلى كل ذلك، انّ الرئيس أحمدي نجاد الرافض لوأده سياسياً فور انتهاء ولايته الرئاسية، مستعد ليكون شمشون النظام، أي أن يدمّر الهيكل عليه وعلى خصومه، وهذا يضع النظام على عتبة التجربة السوفياتية. في وقت يعاني فيه المجتمع الإيراني، بكل طبقاته وشرائحه، من الأزمة الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الغربية، كشف أحمدي نجاد أنّ أربعمائة شخصية نافذة تسيطر على الاقتصاد الإيراني، وأنّ الشعب الإيراني لا يحصل على أكثر من ثلاثين بالمئة من عائدات النفط. لدى نجاد الكثير من البنزين لقذفه على النار الكامنة.
الرئيس السابق محمد خاتمي، أعرب عن قلقه إزاء الوضع المحزن في البلاد، مضيفاً: أخشى أن تُرغم العقوبات ومشكلات أخرى إيران على الاستسلام أو الاحتراق مثل شمعة. أما آية الله هاشمي رفسنجاني فقد اتهم تياراً متطرّفاً بالسعي إلى الحرب ومناهضة الديموقراطية.
تقف إيران أمام مفترق طرق. لم يعد الوقت أمامها مفتوحاً على الوقت. النافذة المفتوحة أمام النظام داخلياً وخارجياً، محكومة بفترة زمنية قصيرة نسبياً. داخلياً إما ينفتح النظام على مختلف القوى خصوصاً الإصلاحيين قبل أيار المقبل، وإما حصول انتفاضة خضراء أكبر وأوسع وأشمل قائمة إلى درجة أن قيادات من الحرس تقول ذلك. خارجياً إما أن يُجري حواراً جاداً مع واشنطن والغرب، وإما يستمر الحصار والعقوبات في ذبح الاقتصاد الإيراني بالقطنة حتى تنتهي ساعة الرمل.
لا يمكن لدولة بحجم إيران واقتصادها الآحادي أن تربح معركتي الفضاء والأرض معاً. عليها أن تختار خصوصاً وأن الباب ما زال مفتوحاً أمامها.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.