حتى القصير، استطاع حزب الله ونجح في المحافظة على ولاء شرائح واسعة من الشيعة رغم الخسائر الفادحة التي لحقت به. تركيز خطاب الحزب على أنه يدافع عن مقام السيدة زينب, ومن ثمَّ عن ظهر البقاع الشمالي وعائلاته من النبي شيت وصولاً الى القاع، لقي صدى ودعم هذه الشرائح. لكن في عزّ معركة القصير وتقبّل عائلات المقاتلين الذين سقطوا فيها، كانت الرسالة الموجّهة للسيّد حسن نصر الله التي قالها أهالي هؤلاء أثناء تقبّلهم التعازي: نحن نرضى بتقديم أولادنا دفاعاً عن لبنان والسيّد ولكن نرفض أن يسقطوا دفاعاً عن... بشار وجماعته.
هذا الوعي الشعبي الشيعي المبكر بأبعاد المعركة في القصير، يجب أخذه في حسابات السيد حسن نصر الله وحزب الله، في ما بعد القصير. لأن السؤال الذي يسود كل الجلسات العائلية عند الشيعة قبل غيرهم هو: ماذا بعد القصير؟
مجرّد التفكير بأن ما بعد القصير، ريف دمشق وحمص والنبك ودرعا وحلب يثير الانقسام في الرأي بشكل حاد. يمكن القول بكل موضوعية وواقعية سياسية، إن الرأي العام الشيعي (أكثر ما في ذلك من الألم تشريع الكلام المذهبي بعد الطائفي، مما يعني أن اللبننة تعمّقت لبننتها وتشظت أكثر فأكثر) منقسم الى ثلاث شرائح:
[ الملتزمون والمؤيدون والمستفيدون والمستثمرون لحزب الله وفيه، وهم الغالبية، التي تضم المقاتلين المحترفين والميليشيات المنتظمة وعائلاتهم، وأيضاً الذين يتولون إدارة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والطبية وعائلاتهم، وأيضاً من يراكم الثروات بسبب إمساكه بمواقع قرار أو الذين يستغلون قراباتهم ويورّطون الحزب في نشاطات (منها الكبتاغون) لم يكن أحد يفكّر فيها حتى في أسوأ كوابيسه بسبب الصورة المثالية التي وضعها الحزب لنفسه إطاراً له طوال سنوات.
هؤلاء كلهم يطبّقون التكليف الشرعي. طبعاً إذا ارتفعت كلفة هذا التكليف، فإن الكثيرين من المستفيدين والمستثمرين سيأخذون مسافة وسيجدون لذلك ألف تبرير وتبرير.
[ المؤمنون بأن الحزب يدافع عن الطائفة ويحفظ لها وجودها ويضمن لها مصالحها ويعمل على تثبيت حقوقها وتطويرها التي كانت تفتقدها في الماضي، وهم شريحة مهمة تضمّ مثقفين وسياسيين ورجال أعمال. هؤلاء يدافعون اليوم ويقفون مع السيد حسن نصر الله تحديداً في خطابه ومساره رغم إشارتهم الدائمة الى التكلفة العالية التي دفعها الحزب في القصير. لكنهم في الوقت نفسه يشدّد هؤلاء على أن ما قبل القصير ليس كما بعدها، ويؤكدون أنهم لا يوافقون على الذهاب أبعد في انخراط الحزب ومعه الشيعة الى ما بعد القصير. ويجب الأخذ في الاعتبار أن شرائح مهمة في هذا الفريق لها حضورها أو امتداداتها في أمل من الباب الصدري (نسبة الى السيد موسى الصدر) الذي يؤمن بلبنان ولبنانية الشيعة. الغالبية من هذا الفريق لن يقبلوا بالانخراط في معركة بعد القصير. ولا شك أن المتردّدين منهم الذين اعتادوا العثور على أعذار لتبرير مواقفهم، سيفتقدون كلما ارتفع منسوب كلفة القتال من الشباب الأسباب التي تبرّر صمتهم. المهم معرفة كيفية مخاطبة هذا الفريق وعدم إغراق الشيعة كلهم في طنجرة البريستو لحزب الله.
[ المعارضون وهم في غالبيتهم من المثقفين، الذين يجاهرون بمعارضتهم لممارسات حزب الله منذ 7 أيار وما بعده، والذين وجدوا في معركة القصير تحولاً كارثياً ونهائياً لبندقية الحزب من بندقية مقاومة الى بندقية ميليشياوية في خدمة مشروع إيراني لا علاقة له بفلسطين وتحريرها ودفاعاً عن الأسد بول بوت الشرق أوسطي، ولا شك أنه بمقدار ما يتم الفصل في الخطاب ضد حزب الله عن الطائفة الشيعية ككل كلما دعم ذلك موقفهم.
أي مزج بين الحزب والشيعة وما يستتبع ذلك من مخزون التاريخ المليء بالقصص والأساطير والخرافات التي وضعت لخدمة مواقف هذا الطرف أو ذاك تضعف هذا الفريق، يحب بوضوح وصراحة التركيز على أن من قاتل في القصير والأرجح غداً في حمص وحلب وغيرهما هو مقاتل في حزب الله وليس مقاتلاً من الطائفة الشيعية.
يستطيع حزب الله وكل الإعلام الأسدي، أن يعمل على أسطرة (من أسطورة) معركة القصير. لكن للأسف ما حصل في القصير أثبت أن الذي يقاتل دفاعاً عن أرضه ليس كمن يغزو أرض غيره مهما كانت الدعاوى والحجج. يجب عدم التغاضي ولا وأد وقائع ميدانية تؤكد أن معركة القصير لم تكن قصيرة ولا خاطفة. بالعكس كانت طويلة وخسائرها ضخمة. لقد حوصرت القصير التي تقوم على سهل من دون مرتفعات أسابيع عدة. واقتضى اقتحامها بعد استخدام القصف الجوي والمدفعي ضد مقاتلين لا يملكون كما ثبت أكثر من سلاحهم الفردي والمتوسط العادي والمتفجرات حوالى 14 يومياً سقط فيها للحزب وحده أكثر من مئة ضحية ومئات الجرحى. أي ما يعادل نصف خسائره في كل حرب الثلاثة وثلاثين يوماً من العام 2006. لذلك كم سيدفع الحزب من خسائر إذا اندفع نحو حمص وريف دمشق ودرعا وحلب التي يشاع أنها قسّمت الى مربعات وأن الحزب سيتولى تحرير أحد المربعات كما حرّر القصير من سكانها وأهلها.
ما زال أمام الحزب وتحديداً قائده السيد حسن نصر الله الوقت الكافي للانسحاب وعدم زجّ المقاتلين الذين عاهدوا الله والإمام الحسين على تحرير الأرض المحتلة وليس احتلال أراضٍ شقيقة لشعب شقيق. أيضاً قبل أن يغرق الشيعة أكثر فأكثر في المستنقع السوري، ويصبحوا مسؤولين عن جرائم الأسد. الدليل أن الإعلام يركّز على دورهم في وقت تناسى فيه دور كتائب الأسد وشبّيحته.
بكلام أوضح ومسؤول، إن مشاركة الحزب في ما بعد القصير، سيضع الشيعة اللبنانيين (شاؤوا أم أبوا) في مواجهة المجتمع السني المهيّأ للعداء، والذي يضخ فيه حالياً كل الدعاوى للحقد عليهم، مما سيجعلهم يدفعون الثمن غالياً من حضورهم وأعمالهم ومستقبل أولادهم.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.