هاجرتُ ولم أُهجَّر في الحرب الأهلية. أمس هُجِّرت ولم أهاجر. أعادني حاجز من الشباب المتطوّع غير المسلح، بتهذيب وحسم قبل صيدا. عدت مكسور الجناح إلى حيث كنت، رغم أنّ تهجيري لم يكن دامياً ولا مهيناً، وأنني كنت بين أهل وأحبّة، إلاّ أنني شعرت بقسوة التهجير ولو لليلة واحدة. في كل لحظة من الليل الطويل الذي أمضيته، متنقلاً بين غرفة النوم وغرفة الجلوس لأستطلع آخر أخبار المعارك في صيدا. كانت تمرّ في ذهني ومخيلتي صور قوافل السوريين المهجّرين، الذين لا يجدون سقفاً يأويهم ولا ما لا يغنيهم عن حاجة أو جوع، والأسوأ، عن مواقف عنصرية من البعض الذين يتعاملون معهم وكأنّهم إمّا جبناء مع أنّ أحداً ليس أكثر شجاعة من السوريين الذين يقاتلون واحداً من أعتى الأنظمة وأكثرها إجراماً عبر التاريخ، وإمّا أنّهم مسؤولون عن إساءات وإجرام النظام الأسدي طوال ثلاثين سنة في لبنان، مع أنّ بعض هؤلاء العنصريين قد يكونوا بين الذين وقفوا صاغرين في حضرة رقيب في المخابرات السورية، وليس أبو عبدو مثلاً، الذي كان يدع ضيوفه واقفين ينتظرون أمره للجلوس وشرب القهوة المحلاّة بأوامره ووعوده.
أيضاً وهو قاسٍ، أنّ الطريق من النبطية إلى بيروت، تطلبت أربع ساعات للالتفاف على صيدا عبر: الجرمق العيشية جزين المختارة نبع الصفا صوفر. ليست وحدها معارك صيدا بين الجيش والأسير وجماعته هي التي أجبرت الجنوبيين على هذا الطريق الطويل والمتعب، أيضاً الأخبار ومنها الصحيح والإشاعات المدروسة والمدسوسة حول حواجز مذهبية فرضت ذلك. الخلاصة أنّ قطع الطرق لم يعد حكراً على أحد. قاعدة 6 و6 مكرر تنفذ بحذافيرها على كل طرق لبنان، ولو وقع المحظور واشتعلت كل المدن والمحاور، فإنّ كل الطوائف والمذاهب سيصبحون، ولو كانت الكلمة قاسية وحتى غير لائقة، مجرد فئران مختبرات في حاراتهم قبل قراهم ومدنهم.
الاستقواء بالسلاح لم يعد حكراً على أحد. كل الأطراف والقوى والمذاهب والطوائف تسلّحت. كل سلاح قادر على قطع كل شرايين الحياة في لبنان. هذه هي النتيجة الأولى لمعارك صيدا.
بداية وهو أيضاً نهاية، الاعتداء على الجيش اللبناني ليس مداناً فقط، وإنّما هو انتحار يجب ألاّ يقدم عليه أحد. الجيش هو السلاح الوطني الأخير. وقعت التجربة في الماضي، وكان انفجار الجيش انفجاراً للبنان. لذلك فإنّ إطلاق الأسير وجماعته النار على الجيش وقتلهم لضباط وجنود، جريمة لا تُغتفر. بعد هذا من الطبيعي السؤال: لماذا كل هذا وماذا بعد؟
الشيخ أحمد الأسير كما أثبت مساره ليس سياسياً عبقرياً، لا بل إنّه سياسي عادي جداً. لذلك مَن أوقعه ودفعه للانزلاق في الاعتداء على الجيش؟ من المهم جداً حلّ هذا اللغز، لأنّ ما بعد الاقتصاص من الأسير وجماعته ليس ما قبله، خصوصاً وأنّ الكثيرين من البكّائين على الجيش وكرامتهم لم يلمّحوا يوماً إلى اعتداءات سابقة على الجيش نفسه. إطلاق النار على الجيش جريمة كبرى، لكن أيضاً المرور أمام الجيش من مسلحين بكامل عدّتهم أيضاً جريمة. تسليم قاتل الطيار سامر حنا وإخراجه من نافذة القانون بعد 7 أشهر فقط من السجن، فتح الباب أمام الآخرين للتطاول على الجيش وتعريضه للخطر. الضغط لإخراج العميل الإسرائيلي فايز كرم من السجن لتصبح العمالة وجهة نظر؟ فتح الباب أمام العملاء الآخرين للتطاول على العدالة وعلى الوطن والقول جهاراً لماذا هذا الكرم مع كرم وهذه الحدّة معنا؟ فرق كبير بين دعم وبكاء اللبنانيين على الجيش وشهدائهم حبّاً بالوطن، والبكّائين من كل الطوائف والأحزاب طلباً لمصلحة أو دعم لمواقف معيّنة.
خطر كبير يحدق بلبنان اليوم. الأسير أسر صيدا، ولكن أيضاً يوجد آخرون سبقوه وشاركوه في هذا الأسر المباشر وغير المباشر. اليوم الأسير وغداً يجب أن يتم إراحة صيدا وبعدها كل المدن اللبنانية من أسيريها. الخطر الأكبر، أن يتحوّل الأسير إلى قميص عثمان، لطائفة تشعر أنّها مستهدفة. الإحباط خطر محدق لأي طائفة تعانيه والأسوأ أن يتم إنضاجه على نار الأحقاد المذهبية.
الآن وقد استعاد الجيش المربّع الأمني للشيخ الأسير، وكبّده خسائر فادحة، على المؤسسة العسكرية أن تنظف صيدا من باقي المربّعات الأمنية بالحُسنى أو بالقوّة. أيضاً مسؤولية حزب الله كبيرة، لأنّه ربح معركة مهمّة من دون كلفة مادية وبشرية، لكن لا يكفي أن تربح عشر معارك وتخسر حرباً. يوجد دائماً في كل الحروب شبح معركة واترلو.
مشكلة حزب الله، وهو يجب أن يعرفها جيداً، أنّ كل صواريخه لا تنفعه في الداخل، وأنّ استقواءه بالسلاح لم يعد احتكاراً له. لذلك مسؤوليته كبيرة في إعادة الدولة إلى الدولة. مسؤوليته كبيرة مهما وجد من مبرّرات وحجج، في فتح الباب أمام تشكيل حكومة تُخرِج البلاد من شبح الفراغ الكبير خصوصاً وأنّ كل المؤسسات معرّضة للفراغ في الأشهر القليلة المقبلة، ووسط كارثة اقتصادية داخلية مدعومة بارتدادات خارجية ناتجة عن تدخّل الحزب في سوريا. لم يعد مقبولاً من الحزب أن يُترك صلاح عزالدين من دون قرار ظني رغم أنّه أضاع على الشيعة الأغنياء والفقراء منهم مئات الملايين من الدولارات وهو المعتقل منذ أيلول 2009، وأن يختفي المصنّعون والمتاجرون بـالكابتاغون وغير ذلك. يستطيع حزب الله أن يصرخ بأن لا أحد بريئاً في لبنان، ولكن هذا لا يبرّئه من المسؤولية ولا يعفيه من العمل السريع خصوصاً بعد صيدا وقبلها القصير لإنقاذ نفسه وهو يساهم مع غيره في إنقاذ لبنان.
لبنان اليوم يعيش حرباً أهلية ليس بالضرورة أن تكون نسخة طبق الأصل ولا متطوّرة عن الحرب الأهلية السابقة. إنّها حرب أهلية من نوع جديد، حيث المواجهات تكون محدودة ومتنقّلة تستنزف اللبناني الجريح حتى الموت من دون أن تطلق عليه رصاصة الرحمة.
الحرب في سوريا طويلة. وهي لن تشهد مهما طالت انتقال اللبنانيين إليها للتحارب هناك. لبنان هو أرض الحياة والموت معاً لكل اللبنانيين، لم يفت الوقت.
أعيدوا الدولة إلى الدولة.. تسلموا.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.