صديقي، عاشق للمقاومة منذ الرصاصة الأولى التي أطلقتها حركة فتح. النكسة عام 1967، أفقدته الأمل بالجيوش العربية. ما زاد من منسوب يأسه من هذه الجيوش، إمساكها بالسلطة، ووضع نفسها في خدمة قادة لا علاقة لهم بقيادة أوطان وإنّما تزعّم عشائر وطوائف تحت مختلف التسميات. حتى نصف الانتصار الذي حصل في حرب رمضان من العام 1973، لم يجعله يغيّر رأيه. التطوّرات اللاحقة أكدت خياراته. أنور السادات استثمر نصف الانتصار في عقد اتفاقية كامب ديفيد, وفصل مصر عن العرب. وحافظ الأسد وظّف ما دعاه انتصار تشرين في الدخول إلى لبنان وإغراق الجيش السوري في قرى ومدن لبنان، والإفساد المتبادل بين أركان الجيش و معظم السياسيين اللبنانيين من القمّة وصولاً إلى أصغر مختار في أصغر قرية.
تحرير الجنوب عام 2000، رفع درجة تعلّق صديقي بالمقاومة كمبدأ وممارسة، إلى أعلى الدرجات. رأى دائماً في المقاومة والتحرير، نتاجاً صافياً لتضحيات شباب الجنوب والبقاع الذين انضووا في حزب الله، والدعم الكامل وبلا حساب للأهل، ردّاً طبيعياً وميدانياً على انزلاق المقاومة الفلسطينية في زواريب بيروت، والانغماس في لعبة السلطة، إلى درجة قيام الدولة ضمن الدولة، والخلل الكبير لبوصلة المقاومة بعد أن أصبح طريق فلسطين يمر بجونية، والأخطر أمواج الفساد المتلاحقة التي طالت الجميع من القواعد إلى القمّة، وأخيراً وليس آخراً تحوّل بندقية بعض الفصائل إلى بندقية للإيجار لهذا النظام أو ذاك مما جعلها رهينة لتوجهات هذه الأنظمة التي لا علاقة لها بالتحرير.
الفارق كبير بين مسيرة النهاية للمقاومة الفلسطينية التي كانت قمّتها في الغزو الإسرائيلي في حزيران 1982 ومن بعدها في ملاحقة قوات حافظ الأسد أبو عمار إلى قلب طرابلس لطرده من لبنان وإخلاء الساحة لهذه القوات، ومسيرة المقاومة في الجنوب التي حافظت على صفاء مقاتليها وسرّيتهم. ورغم أنّ هذه المقاومة كانت محصورة في طائفة واحدة فرضتها الجغرافيا والديموغرافيا من جهة، ومن جهة أخرى, تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية المتعدّدة الانتماءات والالتزامات، بقرار صيغ في دمشق، ونفذ بدم بارد في لبنان، فإنّه حافظ على تعلّقه بالمقاومة ودعمها.
حتى عندما انضم حزب الله إلى الحكومة، وأصبح له وزيران، رأى في ذلك حقاً مكتسباً، وتنفيذه يساهم ويدفع الحزب نحو اللبننة، أي الالتزام بلبنان والانخراط في الدولة. حتى إذا وقعت حرب 12 تموز 2006، وغزت إسرائيل لبنان مجدداً، فإنّه وقف مع المقاومة ودعم صمود المقاتلين ـ المقاومين في الجنوب 33 يوماً، بقرارات ذاتية في العديد من الحالات والمواقع، خصوصاً وانّ قيادة حزب الله لم تكن متأهّبة لوقوع الغزو الإسرائيلي على عملية أخذ الأسرى الإسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى اللبنانيين، مما جعله يتذكر تبرير نكسة 1967، كما قاله جمال عبدالناصر: انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب.
لم يستوعب صديقي السباق الرهيب بين إعادة تسليح المقاومة وزيادة عديدها المدرَّب، وانزلاق حزب الله بسرعة قياسية في لعبة السلطة، التي بدت إغراءاتها أقوى من كل شيء. أيضاً بدأ صديقي يخاف على المقاومة من إلباسها العباءة الإيرانية، خصوصاً بعد أن رفعت وتيرة تغيير طبيعة المجتمع الجنوبي الذي كان قد أوفد إلى إيران بهاء الدين العاملي لإنجاز عملية التشيع، فإذا بإيران توفد كل خصوصيتها في التشيع الناتجة عن خصوصية مجتمعها, إلى المجتمع الجنوبي فتحقق نجاحات واسعة وعميقة, بعكس ما حصل في المجتمع البقاعي حيث العملية بطيئة جداً بسبب خصوصية التركيبة العشائرية والعائلية فيه.
تأكد خوف صديقي وازداد قلقه، لأن فصل المقاومة عن الحزب ليس عملية بسيطة، لا بل بدت مستحيلة، خصوصاً وأنّ الاستقواء بسلاح المقاومة جرت ترجمته يومياً على صعد عدة، أبرز مفاعيلها فرض الديموقراطية الوفاقية المدعومة بالثلث المعطّل. والأخطر جاء في الانحدار السريع في مسار طويل من صياغة التبريرات لكل الأخطاء والخطايا باسم حماية المقاومة.
حتى إذا جاء 7 أيار، كانت الكارثة. لم يقتنع صديقي بكل التبريرات التي دفعت الحزب إلى غزو بيروت. المقاومة الفلسطينية غزت الشوارع نفسها، لكن في الأساس كانوا فلسطينيين يمكن تحمّل الشرخ معهم، حتى إذا خرجوا من لبنان لم يبق سوى ذكرياته. أمّا مع حزب الله، فإنّ الشرخ لبناني لبناني والأخطر أنّه تحوّل بمفاعيل داخلية وخارجية معاً إلى مذهبي شيعي سنّي.
هذا الانفصال المذهبي، عمّق الجرح حتى إذا جاءت الثورة في سوريا، وانحاز الحزب إلى جانب نظام بشار الأسد ضدّ الثورة، أصبح ورماً سرطانياً، من الصعب مداواته ضمن المستقبل المنظور.
لا شك، انّ انخراط الحزب في الحرب إلى جانب النظام الأسدي باسم المقاومة والممانعة، نزع عن المقاومة تاريخها المجيد. بين القتال ضدّ إسرائيل والمحتل الإسرائيلي والقتال في القصير ومن ثم في الأحياء الداخلية في القابون وفي حمص، مسافة ضوئية تساوي الفرق بين بندقية المقاومة وبين بندقية الحزب التي وُضعت في خدمة مشروع إيراني على مستوى منطقة الشرق الأوسط. لا يوجد أي سبب ولا عذر لإقحام المقاتلين في سوريا بعيداً عن الجنوب. قرار الولي الفقيه ليس تكليفاً معصوماً حتى ينفذ بلا مراجعة. ربط مصير المقاومة والمقاومين بمصير الأسد ونظامه الدموي ليس خطأ، إنّه خطيئة. كل نقطة دم من مقاتل كان مقاوِماً في الجنوب تسقط فوق الأرض السورية في معارك ضدّ الشعب السوري باسم المقاومة والممانعة هي خطوة في مسار ضياع وتضييع المقاومة. بين أن تكون بندقية المقاومة للتحرير، وبين أن تصبح بندقية في خدمة الحزب وإيران مسافة تشبه المسافة بين الأرض والسماء.
يكفي لتقدير الفرق، أنّ صديقي مثله مثل الكثيرين مرّ عليه 12 تموز وكأنّه يوم آخر من أيام الأزمات التي يعيشها لبنان واللبنانيون. وسط الخيبات والإحباط والخوف على المستقبل من غدر التحوّلات والميول المتزايدة لدى الجميع بالانتحار ولو نكاية كل طرف بالطرف الآخر.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.