الهلال الإسلامي الممتد من أفغانستان إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، مروراً بكل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، هلال من نار. كل الحروب الأهلية كامنة أو خامدة فيه، في كثير من الحالات منذ تشكّل تلك الدول. الإرادات الأجنبية وتحديداً فرنسا وبريطانيا، لعبت دوراً رئيسياً في تقسيم وتشكيل الدول، دون الاهتمام إلى صحة أو خطأ إعلان الدول. أحياناً عن قصد وسابق تصوّر وتصميم وأحياناً عن سرعة وتسرّع للحصول على أكبر قطعة من الكاتو ووضع اليد على ثرواتها.
بعض الأمثلة الفاقعة التي تؤشّر إلى المآسي التي تبلورت وشكّلت ممراً طبيعياً وإجبارياً لكل الحروب، السودان مثلاً فاقعاً على ذلك. منذ البداية لا شيء يجمع بين الجنوب والشمال، من التكوين الجغرافي والديموغرافي إلى التقاليد والأديان، فكانت الحرب الأهلية مساراً إجبارياً لتحقيق الانفصال وقيام كيانين يمكن لهما أن يتعاونا مستقبلاً على أن يبقيا غريقين في مستنقع الحروب الأهلية الدامية طوال أكثر من ثلاثين سنة. أيضاً، جرى تمزيق الأكراد بين أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا، مع أنّهم يملكون كل الحقوق الشرعية والشروط الواجبة لأن يكونوا شعباً واحداً في دولة واحدة. وما حصل في العراق وتركيا وإيران واليوم في سوريا أيضاً يشكّل ممراً إجبارياً لإصلاح خطأ تاريخي ما بأقل خسائر ممكنة للجميع. ما حصل في الهند وباكستان وبنغلاديش يؤكد أيضاً على كل ما سبق وعدالة ما حصل.
ليس هذا المرض وحده، هو الذي يفجّر اليوم الحروب الأهلية الكامنة. الربيع العربي، كشف بوضوح أنّ مجتمعات الهلال الإسلامي، تفتقد عاملاً أساسياً للاستقرار وتثبيت السلم الأهلي على طريق الاستقلال والبناء، وما ذلك إلاّ لأنّ بنى المجتمع المدني لم تقم فيها. ما زالت عملياً مجتمعات تتحكّم فيها القبيلة والطائفية وهما العدوّان الطبيعيان لتشكّل المجتمعات المدنية. أمام هذا النقص زائد التصحّر السياسي الذي نفّذ على مدى نصف قرن تقريباً، من الطبيعي جداً أن يتحوّل الربيع إلى عواصف يجهل أي مواطن مفاعيلها وآثارها وبالتالي كيفية التعامل معها، وتكون النتيجة سرقة الثورات من العسكر أو من الأحزاب والقوى التي عملت تحت الأرض لعقود وخرجت إلى الشمس مشبعة بالأحقاد وبنقص الخبرات للتعامل مع مجتمعاتها التي لا تعرف عنها إلاّ ما تعرّفت عليه في عالم الظلام والمخابئ والسرّية.
لا شك، أنّ المرض الكبير الذي أصاب هذا العالم الكبير إلى جانب كل هذه الأمراض، هو العسكر. فقد وجد المواطن العاجز عن المشاركة في الواجبات والحقوق وفي مواجهة أخطار الحروب الأهلية في العسكر حلاً مقبولاً يخفف عنه الأعباء رغم انتزاعهم لحرّياته وكرامته. أمّا العسكر أنفسهم فقد وجدوا في ركوبهم للايديولوجيات وسائل مريحة للحكم تحت شعارات فضفاضة تحجب الواقع والمنافذ نحو مسارات أكثر واقعية للتعامل مع العالم الآخر.
أخيراً وليس آخراً، فإنّ مرض الانفصام الكبير الذي اجتاح القوى والأحزاب الإسلامية والإسلاميين منذ حرب افغانستان ضدّ السوفيات تحت إدارة الولايات المتحدة الأميركية، جعل توالد التطرّف مجسّداً بـالقاعدة وأخواتها، وصولاً إلى الإرهاب سلاحاً ضدّ الداخل والخارج معاً، مأساة طبيعية، دفع وما زال وسيدفع العالم، خصوصاً مجتمعاتنا، ثمنه غالياً، من أمنه وعيشه ومستقبله. وممّا زاد الطين بلة، أنّ هذا التطرّف قفز قفزة واحدة بسبب الحالة العراقية أساساً ومن ثم باقي الحالات الأخرى المنتشرة على طول الهلال الإسلامي سواء في أفغانستان أو باكستان أو غيرهما إلى الغرق في المذهبية، حتى جرى استبدال كل الأعداء بالعداء بين السُنَّة والشيعة. هذا العداء الذي يكمل عملياً تدمير مجتمعاتنا منهجياً، ويجعل من كل الحروب الأهلية السابقة تمريناً ميدانياً لما يجري وسيجري حالياً.
هذه السوداوية في رؤية الأرض ليست مغلاة ولا كربلائية. لقد مرّت المجتمعات الأوروبية في حالات مشابهة، إلى أن تشكّلت فيها المجتمعات المدنية ودفعت باتجاه الديموقراطية والمزيد من دمقرطة المجتمعات الغربية. فرنسا وهي المثال الحي لكل ذلك، عاشت حرباً مذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت والثورة التي حققت معجزة في البداية، سرعان ما اقتنصها نابليون، الذي رغم كل الإيجابيات التي صنعها وعجّلت في بناء المجتمع الفرنسي إلاّ أنّه أغرق بلاده وأوروبا في حروب قاتلة إلى أن قامت الجمهورية الثالثة والباقي معروف. لذلك فإنّ الأمل بالتغيير يبقى قائماً، ولكن حتى تكون خشبة الخلاص يجب الكثير من العمل، وبدون مبالغة أنّ الشباب اليوم رغم فقرهم الايديولوجي والفكري يشكّلون جزءاً أساسياً من خشبة الخلاص نحو غد يكون قد تمّت فيه معالجة الحروب الأهلية الكامنة حتى لو كانت خسائرها ضخمة ومؤلمة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.