كثيرون يموتون ليدفنوا. قلة تموت لتحيا من جديد. محمد الحبوبي مات في 8 شباط 2014 في بيروت. ما لم يحققه طوال سنوات نضاله بين القاهرة وبيروت ودمشق وبرلين، عمل على نشره في مذكرات لم تكتمل وهو على فراش المرض والألم الذي لم يتوقف رغم المورفين. الزميلة منى سكرية، الصحافية الممتازة والمجربة في الحوار البارع، الذي يلتقط اللحظات المناسبة ومن ثم تجسيدها بالكلمة الدقيقة نجحت في استخراج معظم أفكاره ومواقفه، حتى التي كانت تنبثق وهو يحشرج وينتظر رحلته الأخيرة من دون خوف، لأنه كان يعرف أنه في لحظاته الأخيرة. في سيرته التي لم تكتمل، لحظات كثيرة كنت شاهداً عليها، فقد عرفته منذ أن وصل إلى بيروت. العروبة كانت رابطتنا، وأيضاً رفضنا المشترك للتحزب مع الفرق في التيارات العروبية. أهمية أحمد الحبوبي أنه كان دائماً صافياً ومحباً ويدافع عن مواقفه بهدوء غريب لم يُعرف كثيراً عن جيلنا.
أحمد الحبوبي ابن العائلة النجفية العراقية (عمه العلامة محمد سعيد الحبوبي قاد الجهاد إبان العدوان الإنكليزي عام 1914. شهد وهو ولد في العام 1958 تقطيع الوصي على العرش عبدالإله إرباً إرباً. يقول عن الشعب العراقي: نحن لسنا شعباً عنيفاً.. نحن العنف نفسه. شقيقه محمد الحبوبي الوزير الناصري في فترة عبدالسلام عارف هاجر باكراً من العراق أما أحمد فاختار برلين لمتابعة دراسته، فيقول أن أهم صدمة إيجابية له في ألمانيا كانت الحرية.
في القاهرة التي هاجر إليها من ألمانيا بعد أن أيقن عدم قدرته على متابعة دراسته في الطب وبعد أن شاهد ظهور النعرة المذهبية في العراق عام 1961. كانت حالة مصر في تلك الفترة واعدة ثم ضاع كل شيء مع هزيمة 1967.
رغم أنه يقف ضد الكربلائية التي تسود المشرق ولا مثيل لها في العالم، فهو يصف هزيمة 1967 بالحالة الكربلائية، بل وهو على فراش الموت يدخل في الحالة الكربلائية وصفاً لحال الأمة فيشرح قائلاً: خسرنا كل القضايا وما زلنا مصرّين على عدم المراجعة. نحن لا نفعل سوى التركيز على مدينة القدس. المسجد الأقصى وقبة الصخرة.. أين الإنسان الفلسطيني من كل ذلك؟.
تعرف في برلين على صديقين: أبو الهول وهاني الحسن. يقول بحسرة إن شخصية أبو الهول لم تكن مناسبة للموقع الذي احتلته. وهو يتابع، من خلال معرفته الدقيقة للوضع الفلسطيني، في تشريح نشاطات القيادات الفلسطينية والعربية، ويعترف بأن القرش أو الدينار قد أفسد كل شيء.
المرض الثاني والأخطر الذي أفسد المشرق إنما يعود إلى الالتباس بين رجل الدين ورجل السياسة. أما المرض الثالث فهو عدم قبول القادة بحقيقة أن بقاء أي نظام إلى الأبد شيء مستحيل.
فصل غائب في الكتاب يؤكد أن السيرة لم تكتمل وهو ماذا عن موقفه من سوريا، وهو الذي أقام فيها، وتنقل وتابع شؤونها وشجونها في عهد الأسد الأب والأسد الإبن، ومن ثم الثورة.. ولا كلمة عن سوريا. ربما وفاء منه لحمايته له، وربما خوفاً على شقيقه أحمد لكن تكفي أنه يبين الأمراض التي عددها هو عدم قبول أي نظام عربي أن بقاءه إلى الأبد مستحيل.
كان محمد الحبوبي، إنساناً ملتزماً، في كل شيء من الفكر إلى الممارسة، بالأنسنة. لم يستطع محمد الحبوبي، وهو المعارض لصدام حسين، من اليوم الأول أن يركب السفينة الإيرانية، كما غيره من القيادات العراقية، خصوصاً الشيعية منها، في الحرب ضد صدام حسين، لأنه كان عراقياً حتى العظم. كان العراق بالنسبة له فوق المواقع والمناصب والمال.
تسأله الزميلة منى سكرية على أي شيء تندم؟، فيجيبها: أبداً، من حيث انتهيت وأصر على تأكيد مسيرتي، ربما كنت غيرت 60 في المئة إلى 70. ربما الندم كامن في هذه السذاجة والفشل والفوضى والقرف من هؤلاء المخربين، كل أخذ نصيبه من التهريج تحت عنوان مقدس..
كان يحب أن يدفن محمد الحبوبي في مدينة النجف لكنه اختار إربيل تصديقاً منه لكل ما كان يؤمن به وأبرزه ما يقوله: أنا مع العيش الإنساني النظيف بين شعوب المنطقة: الكرد والفرس والأتراك والعرب. هذا كنز المنطقة ويشكل رقماً سكانياً كبيراً جداً، ويشكل في الوقت ذاته بحراً من البشر والثروات والكفاءات وكل مقومات مشروع النجاح!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.