غيّبت الكوارث التي ضربت المشرق العربي، ما يجري في المغرب العربي الكبير، رغم كل أهميته وحساسيته في تكوين مستقبل العالم العربي، سواء كان إيجابياً أو سلبياً. الربيع العربي بدأ من تونس، ثم أشعل عود ثقاب بوعزيزي دولاً عربية حيث المواطن يشتاق للحرّية والكرامة بقدر طموحه للأمن والاستقرار. تونس، نجحت رغم الإرهاب وجرائمه، في الصمود والتقدّم خطوات كبيرة على طريق الاستقرار وعدم الانزلاق نحو حرب أهلية تمزّقها كما مزّقت ليبيا. ما جعل تونس تصمد وتبدأ ببناء نظام مدني مستقر، لأنه في قلب التكوين التونسي يوجد مجتمع مدني، زرعه الرئيس الحبيب بورقيبة.
أيضاً نجحت المغرب بما تملك من حصانة تاريخية وبقرارات من الملك محمد السادس في المحافظة على الاستقرار وخوض تجربة فريدة بين النظام الملكي الشديد العمق في تاريخ المغرب والوافد الجديد من الإسلاميين إلى السلطة.
الجزائر هي الحلقة الأصعب في المغرب العربي الكبير. عبرت الجزائر عام 1992 نار الحرب الأهلية بتكلفة عالية جداً. استمرت الحرب عشر سنوات، ولذلك يقال العشربة، سقط خلالها نحو 150 ألف ضحية من الإسلاميين والجيش الجزائري. في تلك الحرب تحالفت المؤسسة العسكرية بقيادة ما يُطلق عليهم جنرالات حزب فرنسا وأبرزهم: معماري التواثي وخالد نزار مع المؤسسة الأمنية بقيادة الجنرال توفيق المعروف باسم مدين، وبدعم واسع جداً من فرنسا، لضرب جبهة الإنقاذ الإسلامية ونجحت في ذلك، وعاد عبدالعزيز بوتفليقة من المنفى لينتخب رئيساً للجمهورية.
كل يوم تقدّمت فيه الجزائر على طريق الهدوء والاستقرار، شكّل معولاً لضرب هذا التحالف الذي كان الجزء المكمّل له المافيا المالية.
منذ اليوم الأول لعبدالعزيز بوتفليقة الذي كان وزير خارجية هواري بومدين، في الرئاسة، أكد أنّه لن يكون ولا يقبل أن يكون ثلاثة أرباع رئيس هذا التوجّه البوتفليقي، دفع باتجاه لعبة الكراسي الموسيقية، أي التحالفات المتنقلة على وضع التفاهمات مع مراكز القوى. تحالف بوتفليقة في البداية مع الجنرال توفيق لرفع وصاية الجيش ومن ثم إعادة انتخابه لولاية ثانية. وفي الطريق إلى الولاية، تم تفكيك بنية جنرالات حزب فرنسا (المجموعة العسكرية التي وضعت يدها على السلطة بعد وفاة بومدين وكانوا جميعهم من الوافدين من الجيش الفرنسي الذين انضموا في السنة الأخيرة إلى الثورة) وإبعادهم إلى التقاعد. في الولاية الثالثة التي تقدم لها بوتفليقة رغم المرض الذي ضربه وجعل الجزائريين يطلقون عليه المومياء، قلب الرئيس تحالفاته، فعمل على تفكيك الجهاز الأمني بدءاً من رئيسه الجنرال مدين الذي لم يرَ الجزائريون له صورة طوال 25 سنة حتى أطلق عليه الشبح وذلك خلال تشييع الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد. وسمي الجنرال طرطاق الذي انهارت علاقته برئيسه مدين لأسباب مجهولة. وكان أول عمل قام به الظهور أمام الجزائريين مسقطاً بذلك صورة الشبح.
كل هذا الشريط من الأحداث البوتفليقية مقدّمة ضرورية ومنتجة لمعرفة التحوّل البوتفليقي الجديد نحو دسترة الدولة المدنية. السؤال الكبير الذي يطرحه الجزائريون اليوم: هل ينجح المومياء بعد توجيهه الضربة القاضية لـالشبح في إخراج الجزائر من إمساك المؤسسة العسكرية لقبضتها؟ وماذا عن فرنسا الشريك الداخلي في صناعة القرارات السياسية: هل يمكن فك قبضتها الشريكة، أم لا؟
أيضاً، إقدام بوتفليقة على إعادة العمل بنظام الولايتين فقط للرئيس المنتخب، هل يصمد أمام طموح أي رئيس قادم يجيد لعبة الكراسي الموسيقية؟ لا شك في أنّ الرئيس بوتفليقة يريد وضع بصمته على الجزائر الحديثة وتحصينها في مواجهة الرياح العاتية للتنظيمات الإسلامية مثل داعش خصوصاً أنّ أرض الجزائر خصبة؟
النجاح الكبير الذي أنتجه بوتفليقة في مشروع الدستور الجديد اعتبار الامازيغية لغة رسمية. بذلك تكون الامازيغية الجزء المكمل للهوية الوطنية الجزائرية (تماماً كما كان حسين آيت أحمد يدعو ويعمل بحيث لا تكون أداة للانفصال وضرب الجزائر).
لا شك في أنّ لفرنسا ومعها أوروبا مصلحة أساسية في تحصين الجزائر أمام الرياح الإسلامية الأصولية والداعشية العاتية، لأنّ انفجار الحرب الأهلية يحوّلها إلى أرض لجوء لا تتحمل موجاتها ولا ألغامها الكامنة، لكن ما العمل إذا كان هذا التحوّل سينتج انقطاعاً بين الماضي والحاضر من جهة وبين المستقبل بكل ما يعني ذلك من مصالح اقتصادية ضخمة؟ الاجابة عن ذلك ستبقى معلقة على تطور الاوضاع والاتفاقات السرية.
حتى الآن، تعارض المعارضة الجزائرية الدستور البوتفليقي المطروح وهي تطالب بإنجاز الطلاق رسمياً ونهائياً مع الماضي والحاضر وصياغة مستقبل ثابت ونهائي لقيام نظام مدني بكل معنى الكلمة، لأن سياسة الخطوة خطوة قابلة للاختراق والضرب.
الخيار صعب، لكن أمن واستقرار الجزائر لا يمكن التفريط فيهما.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.