عرفت فرنسا الكثير من الأزمات، منذ قامت الجمهورية الخامسة، وتجاوزاتها. حتى ثورة 1968 التي انتهت بخروج الجنرال شارل ديغول من الرئاسة، وانضوائه بعيداً عن اجوائها، كانت صعبة، لكنها حملت الأمل بتغيير حقيقي حتى أصبحت مثالاً لكل الشباب في العالم. بعد حوالي خمسة عقود، تبدو هذه الأزمة بلا أي أمل خصوصاً وأنها بلا أي طرح فكري أو سياسي عميق رغم ان الجمهورية الخامسة شاخت، وهي منذ سنوات في غرفة العناية الفائقة، خصوصاً بعد ان اصبح اليمين المتطرف الحزب الثالث، وهو قادر على المنافسة جدياً في الدورة الثانية للانتخابات العام المقبل بعد أن نافس في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها جاك شيراك نتيجة لتضامن القوى الجمهورية من اليمين الى اليسار.
كان من المفترض ان تعيش فرنسا عرساً حقيقياً وجماهيرياً مع بطولة اوروبا لكرة القدم، فاذا بها تتحول الى كرة تتقاذفها الأزمات والمطالب، على وقع بداية التحضير للحملة الرئاسية بين عشرات المرشحين الذين يتنافسون على السلطة داخل احزابهم كما لم يحصل من قبل. كل هذه المنافسات تجري لأن الرئيس الحالي فرنسوا هولاند لم يعد يحوز اكثر من اربعة عشر في المئة من ثقة الناخبين الفرنسيين والذين ما زالوا مستعدين للاقتراع له في الدورة الرئاسية التي ستحصل في مطلع أيار من العام المقبل. الاسوأ من ذلك ان نيكولا ساركوزي الرئيس السابق الذي لم ينجح لولاية ثانية، مصرّ على الترشح، على الرغم من ان شعبيته فقيرة وربما افقر بين اليمين من هولاند بين اليسار. اما الآخرون فانهم يخشون من طرح برامجهم حتى لا يخسروا جزءاً من شعبيتهم خارج احزابهم. أقوى المرشحين حتى الآن ما زال رجل الدولة آلان جوبيه، رغم انه يوصف ما زال مثل الصحن الطائر الذي لا يريد النزول الى الارض الا عندما يتأكد من فوزه بترشيح اليمين الوسط له. الطريف في هذه الحملة الانتخابية، ان فرنسا التي كانت تصدّر الافكار باتت تستوردها حتى من كندا، ذلك ان المثال الذي يرغب معظم المرشحين ان يكونوا على مثاله هو ترودو رئيس الوزراء الكندي. هذا التعلّق بمثال ترودو قد يعود الى ان الفرنسيين تعبوا من الجمهورية الخامسة، وما زال الرئيس القادر على التغيير غائباً.
اما عن الأزمات العميقة التي بعضها يبدو بلا حلول جذرية، فحدث عنها ولا حرج الى درجة تهون فيها مصائب دول اخرى امام مصائب فرنسا التي لم تعتد وقعها. الوافد الى مطار شارل ديغول، يغرق مباشرة في الازمة. اضراب الطيارين في شركة اير فرانس، عطّل حركة السفر، ووضع المسافرين امام مفاجأة إلغاء رحلاتهم وبالتالي تعطيل اعمالهم.
مشهد دوريات الجيش والدرك من المطار الى الشوارع الرئيسية، يثير قلق الوافد، بعد ان أثار خوف الفرنسيين. هذا الخوف او القلق ناتج عن خلفية هذه الدوريات في باريس التي لا نعرف مثلها سوى في اثناء الازمات الضخمة. فرنسا والفرنسيون ما زالوا يعيشون على وقع الارهاب الاسود الذي وقع قبل عام، وهو يتجدّد على يد الذئاب الفالتة، من الارهابيين الذين كما يبدو يملكون حرية اختيار اهدافهم وتنفيذ ارهابهم ضدها لكي تحدث اكبر الخسائر وأجسم مشاعر الخوف، كما حصل قبل ايام في جريمة قتل الشرطي وزوجته، بحيث اصبح كل رجل امن يخشى امتداد يد الارهاب الى عائلته.
كثرة الأزمات جعلت الفرنسيين يحارون مما يشتكون، منهم غرقوا في تعطيل الاضرابات العمالية. من المترو والقطارات الى الطائرات. ما عَمّق المأساة بكل معنى الكلمة ان الفرنسيين تعرضوا ايضاً لغضب السماء. فقد امطرت كما لم يحصل منذ اكثر من مائة عام، فارتفع منسوب نهر السين في باريس عشرة امتار، واضطر المشرفون على متحف اللوفر الى اخراج الثروات الفنية التاريخية التي بعضها لا يقدر بثمن مثل الموناليزا خارجه بعد ان هددته مياه السين. هذا في باريس اما في المقاطعات الزراعية فقد غرقت المواسم وضاعت السنة عليهم وامتدت الخسائر الى شركات التأمين بحيث قدرت بمليار يورو تقريباً.
المشكلة، ان الاضرابات لن تنتهي بسهولة لأن الحكومة لا يمكنها التراجع عن التعديلات التي ادخلتها على قانون العمل، والنقابات القوية لا يمكنها ايضاً التراجع لأنها تتنافس في ما بينها من هي الاقوى C.G.T القريبة من الحزب الشيوعي ام C.F.D.T القريبة من الحزب الاشتراكي.
في مطار شارل ديغول، دخلت المضيفة القادمة من الغوادلوب في حوار معي. بداية الحديث عن انتشار اللبنانيين في العالم، لأنها تعرف ذلك من عملها منذ سنوات حيث لا توجد دولة لا يمر عليها مسافر لبناني. ومن ثم اعلنت تعاطفها مع ازمته بالسؤال الطبيعي هل ما زلتم بلا رئيس؟. اجبتها نعم منذ عامين والفراغ مستمر. ابتسمت قائلة: في فرنسا لدينا رئيس والبلد مشلول!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.