8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

عاد فهيم طرابلس..


عاد مقهى فهيم آغا وعادت معه الحياة إلى ساحة التل في طرابلس، وعاد أهالي المدينة يملأون الأرجاء ويجتمعون إلى طاولة الورق والنرد، في موقع أثري، عمره أكثر من قرن، يُضم إلى الارث العثماني.
مقهى فهيم الذي حافظ على اسمه منذ تأسيسه، لم يعد حكرا على الرجال فقط، بل فرضت النسوة حضورهن بقوة في المشهد، مع توجههن للعب الورق، ليس فقط مع بعضهن البعض، بل مع الرجال أيضا، وهو ما ألغى صفحة كانت طغت على المشهد القديم في المقهى، صفحة كتبت يوما أن رجلا طلّق زوجته عندما ضلت طريقها ومرت من جانب المقهى.
مقهى القبضايات، كان ملتقى لعائلات المدينة وكبار شخصياتها، ومقصدا لبوتقة من الأدباء والشعراء وأصحاب الصحف والمحررين. في كل زاوية من زواياه ألف حكاية وحكاية، كان يرويها الحكواتي، ويشد فيها عقول الحاضرين ويحبس أنفاسهم. ويحكى أن المقهى كان ساحة لحل الخلافات قبل انجاز المعاملات في السرايا الذي كان يحده، وعلى الجهة الأخرى، كان المقهى مقابلا لـمسرح الانجا، الذي كانت تخترق أغانيه مسامع الجالسين في المقهى، فيرقصون على أنغام عبد الوهاب وأم كلثوم التي كانت تصدح من المسرح.
فهيم آغا كفرسوسا، الصاحب الأول للمقهى، وهو مغربي الأصل، وكان توالى أولاده على ادارة المقهى بعد وفاته، ليشكل نقطة تحول أساسية في تاريخ المقهى، مع انجذاب الاستثمار العثماني للمنطقة، وبناء ساعة التل الشهيرة ومبنى السرايا القديمة ومسرح الإنجا والبنك العثماني، ما جعل مقهى فهيم والجوار ساحة ثقل اقتصادي وثقافي لها بصمتها في التاريخ الأثري لمدينة طرابلس.
عرف المقهى، الذي اشتمل على ثلاثية المطعم والملهى والسينما، وجوها من التاريخ السياسي اللبناني، وكان يحضر إليه أنيس معوض، والد الرئيس الراحل رينيه معوض، ويجلس فيه وينتظر الرئيس رينيه لينتهي من عمله ليذهبا بعد ذلك معاً الى زغرتا. وكان الرئيس سليمان بك فرنجية من رواده الدائمين يقصده ليلعب طاولة الزهر مع بعض الأصحاب. وخلال تواجد الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح في طرابلس كانا ينزلان في فندق حكيم ويقصدان المقهى المعتَمَد أيضا من قبل أربعة مخاتير يسيّرون أعمالهم من داخله. كما كان مركز محاكمة لعشيرة الجعافرة في الستينيات من القرن الماضي كانوا يجرون فيها محاكماتهم الخاصة من دون اللجوء الى القضاء.
اليوم، وبعد سبعة أعوام على اقفاله، يظهر المقهى بحلة جديدة وبنسخة محدثة حافظت على أساسيات المبنى الاثري، فظلت القناطر والاحجار القديمة، وبقيت الارضية قائمة على بلاط قديم مزخرف بالطريقة العثمانية، ومن تغير هو صاحبها، فأصبح خضر الشعراني، بعد أن انتقلت ملكيته على مر السنوات إلى أكثر من مالك، ثم أقفل المقهى وسيطر عليه عدد من الشباب الذين كانوا يتخذون منه مقرا للمبيت وسط حالة من الفوضى العارمة في المكان، إلى أن أخلوه بعد وضع الشعراني يده عليه بتصريح من أصحاب النفوذ في المدينة.
على بعد أمتار قليلة من ساعة التل الأثرية في الساحة، يقع المقهى الذي كان أعيد افتتاحه قبل ثلاثة أيام من بداية رمضان، ليشكل نقطة جذب للعديد من الزوار، بخاصة في أوقات السهر والسحور. بعضهم يأتون من طرابلس والجوار، وبعضهم من بيروت. ويظهر أن بعض الزوار أجانب، جاؤوا يستطلعون المنطقة فقصدوا المكان، حتى أن فئة من أصحاب المراكز والنفوذ تقصد المكان الذي يشكل ملتقى للصحافيين والمثقفين، ما يذكر بمقاهي الحمراء العتيقة في بيروت.
الساعة الواحدة ليلا، زحمة زوار تغطي المقهى، وعند الاستقبال، موظف شاب بلباس أسود يرحّب بالقادمين، وفي الأرجاء فريق عمل من الموظفين، يلحظ بينه العنصر الأنثوي. بعض الموظفات يرتدين الحجاب، في مشهد لم يسبق أن شاهده أهل طرابلس في مكان مفتوح بهذه الطريقة في المدينة.
في الداخل، بارودة قديمة العهد، ولوحات معلقة على الحائط، تعود إلى زمن الأبيض والأسود. أما في الخارج، نافورة مياه وأشجار مزينة بأضواء ملونة، إضافة إلى أصوات أحاديث وقهقهات، عدا قرقعة النرجيلة. وبين الداخل والخارج، ممشى ضيق للعابرين.
هناك، في الصف الأخير، يجلس صاحب المقهى خضر الشعراني، يتبادل الأحاديث على طاولة ورق مع عدد من الأصدقاء، واصفا اعادة افتتاح المقهى بـمشروع حلم، ويتمنى أن يستمر الاستقرار الأمني من أجل مواصلة الطريق في اعادة الوهج لطرابلس.
يعود الشعراني بالزمن إلى الوراء، ويكشف أن المقهى كان عبارة عن بنك يودع فيه الذهب، وهو ما أبقى على تردد الأغنياء إليه، من بشري وحصرون وبخعون وغيرها من المناطق، ويشير إلى أن النساء حاضرات اليوم أكثر من الرجال في المقهى، بمعدل 500 امرأة مقابل 200 رجل في اليوم العادي.
يقول ابن طرابلس إنه استأجر المقهى من لبناني يعيش في باريس من آل عز الدين، وإن من يريد أن يدير المقهى يجب أن يكون زكرتي، لذلك لم يكن الأمر سهلا أن يُخرج عددا من الشباب كانوا يعيشون في غرف داخل المقهى، لكن القضاء قال كلمته بهذا الصدد.
التحدي الأكبر بعد رمضان، يقول الشعراني. ويلفت إلى أنه سيحافظ على النمط التقليدي للمقهى، وسيعمد إلى إعادة أيام الحكواتي وايذاع الاغاني القديمة، بالاضافة إلى فتح مكتبة تؤرّخ مدينة طرابلس وتضم وثائق يعود تاريخها لأكثر من عام، ليكون للمقهى خاصية أكبر، على خط إعادة الوهج لطرابلس وإعادة المدينة إلى المسار السياحي في البلاد.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00