تائه في بلد الأرز، ليس فقط في جماله وأناسه، بل في ما يراه اختلافا ايجابيا لم يُكتب أن يكون في أي مكان آخر من العالم. هو الصحافي والكاتب البريطاني وورن سنغ بارتلت، الذي لم يدرك يوما أن زيارته التي كانت مقررة إلى لبنان لثلاثة أيام، ستبقيه فيه 19 عاما كاملة في هذا البلد الذي أغرم به.
قصة الغرام هذه، أرادها بارتلت بإرادته، بعد صدفة جمعته بلبنان، هذا البلد الصغير، الساكن على نقطة في خريطة العالم، لم يبق فقط جميلا في عيون قاصديه، بل يزداد وهجه في عيونهم يوما بعد يوم.
لبنان، سويسرا الشرق، وبيروت، باريس الشرق، وغيرهما من التسميات، تبقى راسخة في أذهان العرب والعالم. إذ ظل بلد الفينيق محور حديث الشعوب في العالم ووجهة دائمة في بوصلتهم إلى الشرق الأوسط، على الرغم من هيجان المنطقة بالحروب والصراعات، وهذا ما تجلى أخيراً في كتاب يحكي الفن والطبيعة والدين والحضارة والانسان في لبنان. صاحب هذا الكتاب، هو بارتلت ذاته، الذي كانت له كتابات في صحيفة نيويورك تايمز وأيضا في الصحافة الالمانية.
الكتاب صدر قبل شهر ونيّف بعنوان Getting lost in Lebanon، أي الضائع في لبنان، وبنيت معظم صوره وقصصه على رحلة فريدة من نوعها بين جبال لبنان، نظمتها جمعية درب الجبل اللبناني لخليط من الجنسيات الأجنبية منها الاميركية والكندية والفرنسية والالمانية والايرلندية والبريطانية، امتدت على طول 470 كلم مشيا على الأقدام طيلة 28 يوما، وقد ارتأى الكاتب أن يضيف إليها أمكنة زارها بنفسه فيما بعد بين عامي 2016 و2017.
يحكي الكتاب مناطق لبنانية، بعض منها يعرفها اللبناني وبعض آخر غابت عن سمعه، بجمالها واختلافها، بأناسها وطبيعتها المذهلة، بجبالها وغاباتها وبحارها، بمزاراتها الدينية، المسلمة منها والمسيحية، وكنوزها التاريخية من الآثار والتماثيل، في عودة إلى الحقبتين اليونانية والرومانية وفترة الوجود الفرنسي في لبنان.
وجهة الكاتب البريطاني وفريقه امتدت من الجنوب إلى الشمال، وتحديدا، من مرجعيون إلى عندقت، فيما كان فريق ثان يتقدم من الشمال إلى الجنوب، ولاقى كلا الفريقين ترحابا وحسن ضيافة في بيوت اللبنانيين الجبلية، حيث كانت لهما محطات لامس ارتفاعها الـ 2000م فوق مستوى سطح البحر، في ليال شتوية ثلجية على رائحة الحطب ومواقد النار الدافئة، وأخرى ربيعية تحت أشعة شمس لطيفة وبين خليط من الورد الملون والعشب الأخضر.
كتاب الضائع في لبنان، لم يكن ليبصر النور، لو لم يتجاوب بارتلت مع الطلب المتزايد من قبل متابعيه عبر حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي انستغرام، تحويل ما ينشره من صور وتعليقات مكتوبة، إلى كتاب يوثّق من خلاله لحظاته والأمكنة التي قطعها في لبنان. وهذا ما حصل بالفعل، فأصبحت قصة عشقه مع هذا البلد موثّقة بكتاب، يبقى للتاريخ.
هنا، يؤكد بارتلت أن لبنان يبقى بلدا جميلا ولا يُدرج في الصورة النمطية التي أعطيت اياه عن أنه بلد حرب أو بلد صحراء ونخيل. ويشير إلى أن هذه الصورة كانت سادت سابقا في أذهان شعوب اوروبا غير المطلع منهم بدقة على المنطقة، غير أن لبنان لا يشبه الآخرين، بحسب تعبيره.
مع كل صورة فوتوغرافية صورها بنفسه، أراد بارتلت أن يكون لها حكاية، حكاية انجذاب إلى ما يسميه اختلافا في كل شيء، ويبسّط الأمر بمثال على كبة البطاطا التي اختلف مذاقها بين بيت لبناني وآخر، في مسافة لا تتجاوز الـ6 كلم. برأيه، الاختلاف هذا لا ينحصر فقط في الطعام، بل في كل شيء، الطبيعة والناس والجبال، هو اختلاف أقرب إلى التميّز، يراه بارتلت ايجابيا. من هنا أراد أن يدخل في العمق أكثر، يستكشف، يغامر ويحلل. وفي المحصلة، لبنان يقوم على مزيج مميز من الاختلاف، لا يتوافر في أنحاء أخرى من العالم.
لبنان جميل وبيروت لها سحرها الخاص، هكذا يوصّفه بارتلت، ويؤكد أن جبال الألب وما يحكى عن أن لبنان سويسرا الشرق، هو فعلا حقيقة شاهدها بأم العين، عند مروره بجبل الشيخ والقرنة السوداء، ويقول: بعد عبورنا القرنة السوداء، ظننت أن الجبال لن تكون على ارتفاع كبير، وجدت أن الجبال متكدسة على بعضها البعض، وتعلو أكثر فاكثر، وهذا ما أذهلني.
ويثمّن بارتلت العيش المشترك الحاصل بين اللبنانيين بالقول: خلال عيد الفصح، شاهدت مسلمين في طرابلس يذهبون إلى الكنيسة لمعرفة ما يحصل في الأرجاء، ربما ليس للصلاة ولكن من باب الاطلاع والانفتاح على الغير، لا أظن أن الأمر قد يحصل في دولة أخرى؟. ويضيف: أعتقد أن هناك أشياء تحصل في لبنان لا يعرفها الناس، أردت أن أذهب بعيدا وأدخل أكثر في العمق.
توقف بارتلت في كتابه عند نهر الباروك ووصفه ببوابة الجنة، كما كانت له محطة تأمل في وادي قنوبين وتنورين حيث السكون والهدوء. واعتبر أن سهل القموعة في جرود عكار هو نهاية العالم، نظرا لطبيعته الخيالية. وسجل الكاتب محطات جميلة له في جبال صنين ونيحا واهدن والأرز وسير الضنية، إضافة إلى العاقورة.
الآثار والأمكنة الدينية، أعطى بارتلت لها مساحة أيضا، وسلط من خلالها الضوء على الحضارتين الهلينية والرومانية في لبنان، إذ توقف عند معابد رومانية في السفيرة وقلعة الحصن التي تعد ثاني أكبر مجمّع ديني عائد إلى الفترة الرومانية بعد بعلبك، إضافة إلى تماثيل قلعة مسيلحة والقلاع الأثرية في صيدا وفقرا وبزيزا ويانوح. كما تطرق أيضا إلى تمثال مزارات قرب شبروح في الجبال، وتمثال للعذراء في منطقة على ارتفاع 1800م، ظن للوهلة الاولى أنه في جبال هيمالايا، إضافة إلى جامع المنصوري في طرابلس، الذي وصفه بـشلالات من الجنة، نظرا للعمارة الفريدة ونقوشه الرومانية وجو الخشوع فيه.
والتفت بارتلت إلى الشجر المعمر والبيوت القرميدية على الصخور عند طريق حامات. كما تفاجأ بطبيعة جبل المكمل في الضنية، ووصفه بالذهب الأسمر. وانجذب إلى مغارة الهوى العجيبة قرب بتلايا، واستوقفته البيوت وحجارتها القديمة في قمامين أو ما يعرف بوادي جهنم في الضنية، إضافة إلى غابات ونهر بسكنتا، وعمارة السفارة الفرنسية في بيروت. والتفت إلى شارع السهر في مار مخايل وتحديدا أرمينيا، حيث يخلع المرء شعره ويبدأ بالرقص.
وتحدث بارتلت عن ليلة ايسلندية في جبال بشري وصلت حينها الحرارة إلى 19 درجة تحت الصفر، ولم يغفل عن ميكونوس لبنان، وهي أفقا، الساكنة على البحر والتي تحولت إلى منتجع سياحي يشبه إلى حد كبير عمارة جزيرة ميكونوس باللونين الابيض والأزرق.
محطات كثيرة توقف عندها بارتلت، آخرها كانت مع راع عند جبل الشيخ، ولا يبدو أنها المحطة الأخيرة، مع تأكيد بارتلت أنه يعتزم إصدار كتاب جديد، يحكي أحداثا رافقته في لبنان، من لحظة وصوله في التسعينيات حتى هذه الايام.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.