تكاد تكون الدوحة، بيروت صغيرة قبل الغزو الإسرائيلي في العام 1982، تتقاطع في قلبها الجغرافيا بأطياف وألوان الجنسيات الواحدة منها والمغادرة. الدوحة تعيش حالياً على وقع مؤتمرات مختلفة في برامجها ونوعياتها وطبيعة المشاركين فيها لكن من الواضح جلياً أن خيطاً رفيعاً يربط بينها. فالدوحة اليوم هي المختبر المتقدم لدراسة وقائع الحاضر وأحواله، ولصياغة مستقبل للمنطقة، تحت إشراف خبراء يدعون معرفة أرض المنطقة وناسها، وربما لأن الدوحة أصبحت كذلك.
ولأن الدوحة أصبحت هذا المختبر فإن الرسميين من عرب وأجانب يتوافدون اليها لالتقاط "الرسائل" وتجد في فنادقها ومطاعمها كما كانت مقاهي بيروت، الفلسطيني القادم من قلب الحصار في رام الله، والفلسطيني من "عرب إسرائيل" كما يطلق عليهم وهم أصلاً فلسطينيو الداخل، والفلسطيني الذي ترى الحيرة على وجهه لانه خارج من غزة الموعودة بتفكيك المستوطنات الإسرائيلية وبين هؤلاء يتنقل خبراء غربيون يستطلعون المواقف ويستكملون معلوماتهم دون ان ينسيهم هذا دورهم في ضخ معلومات يريدون ان تصل الى مواقع معينة.
صورة الوضع الفلسطيني، كما نقلتها مصادر متعددة لـ"المستقبل"، فلسطينية منها وأجنبية، تركز على نقطة أساسية وهي أنه "يجب منع انفجار حرب أهلية صغيرة كانت أو كبيرة محصورة أو واسعة من جهة وإحباط أي محاولة إسرائيلية لتنفيذ عملية ترانسفير واسعة للفلسطينيين من جهة اخرى". وتجمع المصادر المتقاطعة التي استمعت اليها "المستقبل" على الافاضة في توصيف الوضع قد يهدد الانتفاضة أولاً والمستقبل الفلسطيني ثانياً. وبداية فإن ارييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي يريد وضع يد إسرائيل نهائياً على 58 في المئة من الضفة الغربية بعد تنفيذ مشروع "غزة أولاً" وتفكيك مستوطناتها علماً ان المشروع يقضي بتفكيك 17 مستوطنة تعرف باسم "غوش قطيف"، على أن تبقى أربع مستوطنات قائمة في القطاع، وبهذا فإن الجلاء الاستيطاني عن غزة لن يكون كاملاً. وفي الوقت نفسه فإنه يهيء لكي تتحول غزة الى سجن حدوده البحر والصحراء، وزيادة في تأكيد ذلك فإن الجيش الإسرائيلي ينفّذ يومياً عمليات هدفها خلق "أرض حرام" مكشوفة بين غزة ومصر، ومن ذلك فإن عملية التجريف واسعة تناولت 8 كيلومترات وبعمق نصف كيلومتر وذهب ضحيتها 1261 منزلاً، وكل شيء يؤشر الى أن العملية لم تنته. كما أن الجيش الإسرائيلي في محاولة جادة منه لتحريم عبور هذه المنطقة قتل حتى الآن 82 طفلاً تقل أعمارهم عن 14 سنة.
وفي وسط كل هذه "الخطة الشارونية" يقع بناء "الجدار العنصري"، هذا الجدار الذي يريد شارون أن يصل طوله حوالي 752 كيلومتراً، علماً ان طول الحدود لا يزيد على 200 كيلومتر. وهذا الفرق الهائل يعود الى المسار الحلزوني الذي يقطع الأراضي الفلسطينية ويُفرّق بين الاخ واخيه، ويحرم الفلسطينيين من ملاحقة أرضه وزرعه مباشرة. وقد بني من هذا الجدار حتى اليوم 80 كيلومتراً وقد تضرر حتى الآن أكثر من 200 ألف فلسطيني من هذا "الجدار العنصري".
ولكي ينجح هذا المشروع، فإن ارييل شارون لم يحاصر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، لإلغائه وإقتلاعه أو كسر إرادته على الأقل فحسب، وانما ايضاً لكي يكون ذلك الحلقة المركزية من عملية تقطيع القيادة الفلسطينية من طريق تحويل المدن والمربعات الجغرافية والسكانية الفلسطينية الى كانتونات ـ جزر خاضعة لسلطة قيادات محلية معزولة يمكن التعامل معها عبر الترهيب أو الترغيب.
وتتابع المصادر نفسها، أنه بعد تدمير البنى التحتية في الأراضي الفلسطينية، بما فيها تدمير الذاكرة الإدارية للمؤسسات الفلسطينية الرسمية والخاصة، يُصار من طريق فصل هذه "الجزر" الى منع الاتصال والتواصل بين المسؤولين المحليين، مما يحول بين القيادة المركزية ممثلة بياسر عرفات وهؤلاء "القادة" المحليين، فتتم عملية تفتيت القيادة وتفكيك حركة "فتح" العمود الفقري للمؤسسات الرسمية.
وكأن الشعب الفلسطيني لا تكفيه هذه الخطة الشارونة "الشيطانية"، فان الصراعات الفلسطينية الداخلية تقذف الى "طاحونة" هذا المشروع ما ينقصه ويعوزه لاستكمال دورته. وما الهجوم الذي شنه مسلمون على مكتب اللواء الجبالي ومقتل أحد رجال الشرطة وجرح 11 آخرين، سوى تعميد بالنار للخلافات العميقة.
وتشرح مصادر فلسطينية هذه الخلافات فتعيدها الى بداية العودة من تونس الى الداخل الفلسطيني. فالخلافات وقعت منذ 1993 بين "العائدين" الذين يرددون انهم تحملوا عبء المواجهة والنضال في الخارج، و"المناضلين" من الداخل الذين يؤكدون انهم تحملوا عبء الاستلاب طوال ثلاثين عاماً مثلما دفعوا غالياً ثمن الانتفاضة، وفي بدايات هذا الخلاف بين أهل الخارج أو "التوانسة" (نسبة الى تونس) وأهل الداخل، عمد ياسر عرفات في اطار منهجه القديم القائم على حل الاشكالات عبر اقامة التوازنات التي تريحه وفي الوقت نفسه تمكنه من اللعب على الخلافات بحيث تبقى كل القوى محتاجة اليه. وترجمة ذلك كانت في تشكيل جهاز "الأمن الوقائي" لكوادر الداخل في غزة بقيادة محمد دحلان والمخابرات العامة بقيادة أمين الهندي لكوادر تونس. كذلك حصل في الضفة العربية فتسلم الأمن الوقائي جبريل الرجوب، وتولى توفيق الطيراوي المحاصر مع عرفات والمطلوب رأسه من اسرائيل جهاز الكوادر من تونس.
ولم تقف الخلافات عند هذا الحدود، فقد امتدت نارها لتشعل الصراعات بين الأمن المشكل وحركة فتح سواء في غزة مع أحمد حلس، او في الضفة مع مروان البرغوثي وحسين الشيخ في الضفة. وفي صلب هذه الخلافات تدور حالياً المنافسة الى درجة المواجهة في سباق محموم لم يشتعل بين القيادة المركزية لفتح والأمن في كل ما يعني مستقبل الخلافة والقرار.
ولائحة اتهامات المتبادلة طويلة. لكن معظمها يتمحور حول محمد دحلان الطموح جداً والمستعجل كثيراً للصعود الى القمة. وتراوح هذه الاتهامات العلنية بين اتهامه بالاتفاق مع الأميركيين والاسرائيليين على وأد الانتفاضة، والعمل على تعقبة كوادر "حماس" و"الجهاد" وكتائب الأقصى، وتنصيب نفسه "زعيماً" على غزة عندما تحين خلافة ياسر عرفات. لكن أخطر الاتهامات، أن محمد دحلان أنشأ "فرقاً للموت" وأن هذه الفرق ناشطة حالياً، ومع أن الجميع بمن فيهم محمد دحلان نفسه يؤكدون أن "الحرب الأهلية" تشكل خطاً أحمر لدى الفلسطينيين لا يمكن لأحد اختراقه، الا أن المصادر الفلسطينية تبدي قلقها من مفاجآت غياب الرئيس ـ الرمز ياسر عرفات فجأة. ذلك أن "الختيار"، لا يريد أن يرتب "البيت الفلسطيني" في حياته، على الرغم من أن الجميع يحذرونه من الخلافات الدائرة داخل فتح من جهة، ووجود 12 الف مسلح تابعين لحركة "حماس" في غزة، مما يضمن لها السيطرة على الأرض عندما تتخذ قيادتها القرار السياسي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.