أرخت تداعيات الحرب الاميركية ثقلها على الداخل العراقي فانفتحت ملفات داخلية متراكمة على تناقضاتها بشكل ينذر بمضاعفات خطرة للغاية، وعلى وجه الخصوص ملف المرجعيات الشيعية الذي تطور بوتيرة دموية في مدينة النجف الأشرف، بعد قتل السيد عبد المجيد الخوئي، لتتواتر الاخبار عن حصار مقر إقامة المرجع الاعلى آية الله السيد علي السيستاني، ما استدعى ارتفاع أصوات شيعية عدة في انحاء العالم مستنكرة هذا العمل المتهم به السيد مقتدى الصدر نجل السيد محمد صادق الصدر الذي اغتاله نظام صدام حسين في شباط 1999، مع الاشارة ايضا الى ان السيد مقتدى متهم بالوقوف وراء قتل السيد الخوئي.
وجاء خبر مقتل السيد مقتدى الصدر نفسه في النجف امس ليصب زيتا على نار مستعرة. وإذا كان هذا الخبر، كما أكد أنصار للسيد مقتدى اتصلت بهم "المستقبل" في بيروت ودمشق، لا يعدو كونه شائعة، فان أنصار المقتدى، الذين ينفون أي مسؤولية لهم في قتل السيد عبد المجيد الخوئي، ينفون أيضا محاصرة منزل السيد السيستاني، ليتحدثوا عن حرب شائعات ضدهم، باعتبار انهم الأقوى على الارض، ولا يستبعدون ان يكون هدف هذه الشائعات تأمين إدخال قوات الاحتلال الى النجف، خصوصا ان معظم بيانات الاستنكار تركز على تحميل هذه القوات مسؤولية التداعيات الامنية في المدينة.
اذن تصاعدت وتيرة الاحداث من خلال قيام مجموعة من المسلحين الذين قيل انهم من جماعة مقتدى الصدر بمحاصرة "صحن الامام" في النجف عند مقام الامام علي بن ابي طالب وحيث منزل المرجع السيد علي السيستاني وتم ابلاغ ابنه أن على والده مغادرة النجف والعراق خلال اربع وعشرين ساعة كما تم ابلاغ السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ اسحق فياض والشيخ بشير النجفي بالامر نفسه.هذا التطور اكده الوكيل العام للسيد السيستاني السيد ابو القاسم الديباجي لـ"المستقبل"، معتبرا ان الاوضاع خطيرة جدا وتهدد بتصاعد هذه الاحداث اذا لم يوضع حد لها وبسرعة. وقال انه على اتصال مع النجف وايران وكافة المراجع من اجل تهدئة الاوضاع، داعيا كل المراجع والهيئات والمنظمات الى التحرك والتظاهر واستنكار ما يحصل، معتبرا ان وصول الامور الى هذه الدرجة من اهانة كرامة العلم بغض النظر عن الطائفة هي مسألة جدا خطيرة لما لموقع السيد السيستاني العلمي من اهمية.
السيد الديباجي الذي رفض اتهام اي جهة بوقوفها وراء هذا العمل الا بعد التقصي الكامل، قال ان ما تفعله جماعة مقتدى الصدر هو تشويه لسمعة آل الصدر الكرام.
رئيس تجمع العلماء المسلمين الشيعة في الكويت السيد المهري الذي اكد ايضا حصول هذه الحادثة قال انه اجرى اتصالات في قم ومع رجال الدين من اجل التحرك العاجل لمعالجة الامر، كما ناشد قوات التحالف التدخل لحماية المدنيين وحماية الاماكن المقدسة، معتبرا ان ما يجري عملية تصفية حسابات وربما حسابات سابقة.
المراجع الدينية حذرت بمعظمها من تداعيات ما يحصل والذي يعود الى الواقع الذي خلفته السنوات العشر الماضية بعد استئصال كافة القوى السياسية ومع نشوء فراغ سياسي خاصة مع اغتيال السيد محمد صادق الصدر وتضييق الخناق على السيد السيستاني.
التطورات الحاصلة في النجف في ظل الصراع القائم والتي تتعزز فيها التجاذبات في هذه المرحلة تنذر بمضاعفات خطيرة على مستوى المرجعية الشيعية ما يفتح الباب واسعا امام عمليات تصفية كبيرة قد تمهد لصراعات طويلة في ظل حالة الفوضى القائمة وفي غياب اي سلطة محلية وسياسية يمكن ان تمسك بزمام الامور في هذه المرحلة المترافقة مع التحضيرات لعقد مؤتمر الناصرية الذي تم دعوة مئه شخصية معارضة عراقية لحضوره والذي سيكون المرحلة الأولى للبدء بالادارة المحلية في المدن العراقية قبل الدعوة لاحقا لمؤتمر موسع لتشكيل حكومة عراقية سياسية.
ومما لا شك فيه ان مقتل السيد عبد المجيد الخوئي في قلب الصحن العلوي في النجف، ومن ثم تمزيقه بالسيوف والخناجر وسحله الى خارج الصحن، لم يكن مجرد عملية اغتيال أو تصفية حساب فقط، وإنما "رسالة" مكتوبة بالدم موجهة الى الداخل والخارج معاً.
مصادر عراقية متعددة الاتجاهات ترى ان مقتل السيد الخوئي كشف النار الكامنة منذ عقود داخل النجف وحوزاتها والصراع على القرار ومن يملكه، خصوصاً ان استقرار هذا القرار في يد واحدة أو جهة واحدة، يضعها مباشرة في صلب دائرة القرار حول العراق ومستقبله. ويعود ذلك الى الاعتراف الدولي بأن الشيعة يمثلون أكثر من نصف العراقيين، ولذلك يصبح كل شيء معروفاً ومفهوماً.
وتشير المصادر العراقية المطلعة الى وجوب العودة الى الوراء قليلاً لإضاءة الظلال المحيطة بكل ما يحدث، خصوصاً بعد بروز اسم السيد مقتدى ابن آية الله محمد صادق الصدر على الساحة واتهامه بقيادة المجموعات التي هاجمت السيد عبد المجيد الخوئي وحيدر الكلدار الهدف الأول للهجوم لأنه متهم بالتعاون مع النظام السابق.
وتفصيل كل ذلك، استناداً الى المصادر اياها، ان عائلة الصدر الغنية بالعلماء والدارسين، قدمت أولاً آية الله محمد باقر الصدر الذي يعتبر الأب الروحي لـ"حزب الدعوة"، الذي تعرض لحملة قمع دموية لم يشهدها أي حزب عراقي، دفع خلالها آية الله الصدر وشقيقته والعديد من عائلته وأنصاره من دمائهم وأرواحهم ثمناً لهذه الهجمة الدموية، واضطر الابن الآخر للصدر السيد جعفر الى اللجوء الى إيران. ويقال ان هناك محاولات لتسهيل عودته الى النجف للمساهمة في لعب دور فاعل في المرحلة الحالية.
وبعد الضربة الساحقة لانتفاضة الجنوب عام 1991 غداة حرب الخليج، نتيجة لـ"الخيانة الأميركية"، كما يقول العراقيون حتى الآن، ظهر السيد محمد صادق الصدر وهو كما كتب وعرف عنه، لم تكن لديه الأعلمية، خصوصاً انه بعد وفاة الإمام الخوئي اعترف الجميع بالمرجعية للسيد الإمام علي السيستاني، بما في ذلك آية الله العظمى محمد حسين فضل الله ابن المدرسة الخوئية الذي وقف مع الإمام الخميني والثورة الإسلامية.
وتضيف المصادر نفسها، ان السيد محمد صادق الصدر، الذي عاش مأساة الانتفاضة وانسحاقها، عمد بسرعة، وكان متمكناً من الخطاب الجماهيري، الى لملمة أهل النجف وبقايا المحافظات الشيعية، حول تحويل الانتفاضة المسلحة الى حركة سلمية تطالب بالتغييرات والإصلاحات. وفي الوقت نفسه عمل لمد هذه العملية، وربما بتأثير من السيد محمد حسين فضل الله كما تقول بعض المصادر العراقية، الى إصلاح العلاقات وحتى تدعيمها وتقويتها بين الشيعة والسنة. وبسرعة التفّ حوله الناس، وأصبح عدد الذين يؤمهم في صلاة الجمعة عشرات الآلاف. وفي البداية رحّب النظام العراقي بظاهرة السيد محمد صادق الصدر، في ظل الحصار المفروض على العراق، وعمل لفتح الأبواب أمامه، مما سمح بتوسيع دائرة اتصالاته ونشر خطابه السياسي.
ويبدو استناداً الى المصادر نفسها، ان خطاب السيد محمد صادق الصدر، الذي تجذر أكثر وأصبح أكثر شمولية، أخذ يحرج النظام العراقي فوجّه له تحذيراً قاسياً. وبدلاً من ان يتراجع ذهب السيد محمد صادق الصدر أبعد من ذلك، فدعا الى تمازج السنة والشيعة، ومن ذلك دعوته الى صلاة مختلطة بين مسجدي الأعظمية والكاظمية في بغداد، وقد حصل ذلك. ثم عمد الى ارتداء الكفن الأبيض في الصلاة التي أمّها بمناسبة ذكرى الإمام الحسين والتي حضرها أكثر من نصف مليون مصلي، وجرى لاحقاً توزيع فيديو قصير يؤكد ذلك. وكما كان متوقعاً، وقعت المواجهة. وجرى في شباط 1999 اغتيال السيد محمد صادق الصدر وولديه في النجف ونجا السيد المقتدى.
وقد شاءت المصادفات أو التطورات السياسية ان يوجه السيد آية الله محمد باقر الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، قبل اغتيال الصدر بأيام اتهامات علنية له بأنه يتعامل مع النظام. وعندما قتل الصدر مع ولديه وجاء الحكيم الى قمّ، جبه في المسجد بهجوم قاس جداً من المصلّين وصل الى درجة قذفه بنعال المصلّين، وبذلك ترسخ حقد آخر بين آل الصدر وآل الحكيم، علماً أنهما العائلتان العربيتان اللتان أعطتا أفضل العلماء في النجف.
وبالعودة الى تحرك السيد مقتدى الصدر، وكل ما يقال حول تزعمه اغتيال السيد الخوئي ومن ثم دعوته المراجع غير العربية مثل الإمام السيستاني وآية الله اسحق فياض، الى مغادرة النجف خلال 48 ساعة، وإنذاره الى آية الله محسن الحكيم بمبايعته، ترى المصادر العراقية المعارضة المطلعة ان ذلك يحمل بذور صراع قديم على النفوذ بين العلماء من أصول عراقية وعربية والمراجع من الأصول الإيرانية والأذربيجانية.
وقد يكون مقتدى الصدر ومن حوله يريدون استثمار غياب البعض وصمت البعض الآخر، لحسم هذا النزاع لمصلحتهم، ذلك ان مقتل عبد المجيد الخوئي يحرم المؤسسة الاجتماعية للخوئي عقلها الإداري. فالسيد عبد المجيد لم يكن له خطاب سياسي حقيقي، لكن كان يملك مشروعاً ضخماً يتعلق بتطوير الحوزة والخدمات الاجتماعية داخل الطائفة والنشر الثقافي وتطويره. وان شقيقه السيد عبد الصاحب رجل الأعمال المقيم في إيران والذي سيعود الى لندن خلال مطلع هذا الأسبوع كما أكدت مصادر مطلعة لـ"المستقبل"، لا يملك هذه الطبيعة. وأمام ذلك سيعود الى الواجهة السؤال الطبيعي حول أموال المؤسسة التي تقدر بالمليارات ومن له الحق بإدارتها، خصوصاً أنها أموال من الشيعة للشيعة وليست لبيت واحد مهما كانت مرجعيته مهمة.
واللافت في كل ذلك، ان السيد مقتدى الصدر، قد يمكنه حمل خطاب سياسي شعبوي عراقي يؤكد استقلالية القرار، ولكنه لا يملك الشرعية الدينية، فهو لا يتمتع سوى بأبسط درجات العلم الفقهي، وبذلك يجب البحث عن مرجع يمنح هذه الحركة سنداً شرعياً ضرورياً. وهنا تضيف بعض المصادر العراقية، لا يبقى سوى السيد محمد حسين فضل الله الذي بشرعية أفقهيته ومرجعيته يستطيع ان يلعب دوراً بارزاً وفاعلاً في تهدئة الأوضاع وتصحيح مسارها، خصوصاً ان أي صراع داخلي سيستفيد منه الاحتلال الأميركي ـ البريطاني.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.