8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

جاك شيراك فارس السلام

جاك شيراك فارس في أعماق قلبه لكنه كان غالباً بلا قضية، واليوم هو فارس له قضية. هذا التوصيف لجاك شيراك، هو لأحد القريبين منه في قصر الاليزيه الذين يلاحقون حركته الدائمة لمنع "أسوأ الخيارات" وهي الحرب لنزع سلاح الدمار الشامل العراقي.
الذين يعرفون جاك شيراك أو "جاكو"، كما يطلق عليه رجل الشارع الفرنسي، الذي يحب فيه "إنسانيته"، لم يفاجأوا بتصميمه، ولا بإصراره على كسب هذه المعركة. فهو منذ اكتشفه الرئيس الراحل جورج بومبيدو أطلق عليه لقب "البلدوزر"، في حين أصبح بومبيدو بالنسبة لشيراك الديغولي "العم جورج".
وبعد نجاحه في الانتخابات التشريعية في منطقته الكورنير، ضم شيراك إلى مسلسل ألقابه الذي سيطول خلال أربعين عاماً من العمل السياسي لقب "النملة". فشيراك لا يتعب، وعندما يصمم على النجاح، لا يترك حاجزاً يقف أمامه، ولا قرية في أعمق أعماق فرنسا إلا ويزورها، ويرتبط بواحد أو أكثر من سكانها متابعاً أوضاعه اليومية العادية.
لكن جاك شيراك اليوم ليس إطلاقاً جاك شيراك العام 1967 ولا في أثناء ثورة الطلاب عام 68، عندما ذهب وحيداً ومسدسه في جيبه إلى معقل القيادات العمالية للتفاوض معهم. وحقق أكبر نجاحاته الأولى إذ توصل إلى اتفاقات غرونوبل، وهو أيضاً ليس شيراك الذي خاض معركة فاليري جيسكار ديستان ضد جاك شابان دلماس، ليصبح رئيساً للوزراء وعمره 41 عاماً. وهو بالتأكيد ليس شيراك الذي هزمه فرنسوا ميتران، ولم ييأس وتحصن "بفرش" بلدية باريس.
وبطبيعة الحال، فإن شيراك في ولايته الرئاسية الثانية هو نقيض الرئيس الذي فاز بأغلبية 52.6% من الأصوات، وأرغم على المشاركة بعد ان خسر حزبه الانتخابات التشريعية. وطوال سنوات خمس وجد شيراك نفسه رئيساً "يملك ولا يحكم"، اذ كانت السلطة لخصمه ليونيل جوسبان. وعندما وصل الى انتخابات الولاية الثانية، كان كل شيء يؤشر الى ان فوزه ليس مستحيلا ولكن صعبا.
وجاء "زلزال" 21 نيسان 2002 وفشل ليونيل جوسبان ونجح جان ماري لوبن اليميني المتطرف، ومر جاك شيراك بصعوبة. وبسرعة اعلن شيراك انه "فهم الرسالة"، وخاض بقوة معركة انقاذ الجمهورية وجاء نجاحه اكثر من 82% ليؤكد تعلق الفرنسيين بهذه الجمهورية والديموقراطية التي مهما تبرموا من يومياتها فانهم يعشقونها. وهنا ايضا اكتملت الرسالة التي فهمها شيراك، وهي ان هذه النسبة الكبيرة من الاصوات التي لم يحصل عليها الجنرال ديغول في اوج مجده، تكون له اذا احسن العمل، او تكون زبد بحر حملته الامواج الشعبية معها في تظاهرة يوم عيد العمال وسحبته معها، فليس اصعب من الفرنسي في تعامله مع المسؤولين السياسيين، يستطيع ان يكرههم بأسرع مما يحبهم، ولذلك قرر شيراك القفز فوق اليوميات العادية والدخول في التاريخ!
ولا شك ان فوز حزب "الاغلبية من اجل الرئاسة" الذي شكل على عجل، بأكثرية مطلقة قد اراح جاك شيراك، فاختار رئيساً للوزراء انطلاقا من نتائج زلزال 21 نيسان، اي اصطفى مسؤولا يعرف كيف يخاطب هموم الفرنسي العادي، وتفرغ هو للشؤون الدولية يساعده في ذلك رجله الامين والقريب منه دومينيك دو فيلبان، وزير الخارجية والذي كان سكرتيرا عاما لقصر "الاليزيه".
ويبدو جليا ان شيراك استوعب بسرعة كارثة 11 ايلول، ومتغيرات العولمة ونتائجها ومستقبلها، فهو كان يلتقي يوميا اقتصاديين ورجال اعمال، ويتناقش معهم لمعالجة ما اطلق عليه مرض متوسط العمر للرأسمالية والليبرالية، ولذلك عندما بدأت الازمة العراقية، وتشكل الموقف الاميركي حول خيار الحرب، عرف فورا ان مستقبل النظام الدولي في قلب هذه الحرب، وأن واشنطن تريد اقفال الباب أمام عالم متعدد القوى والمحافظة على أحاديتها، مما يحرم أوروبا من مكان تعد نفسها له في نهاية العقد الثاني من هذا القرن!. وعندما غرق معظم السياسيين في "رمال" نزع سلاح الدمار الشامل العراقي، أدرك شيراك ان النفط والسيطرة عليه هما احد ابرز الطرق الأميركية لصياغة النظام المستقبلي.
"الفارس" جاك شيراك، وجد في "السلام" قضية له، فحملها بجدارة وقوة، وتجاوز بذلك المصالح الصغيرة لفرنسا. كان بامكانه التفاوض مع الرئيس جورج بوش حول حصة فرنسا من "الكعكة" العراقية وخصوصاً العقدين المتفق عليهما منذ عهد فرنسوا ميتران مع صدام حسين حول حقول "مجنون" و"جزيرة عمر". لكن "الفارس" قفز فوق هذا "الفخ" المغري، لتحقيق ما يؤمن به.
وطوال أشهر من هذه "المعركة التي شارفت على نهايتها بعدما ربحها شيراك وان لم ينجح في منع الحرب، اكد دائماً على "ثوابت" مواقف فرنسا وهي:
التشديد على ضرورة نزع سلاح الدمار الشامل لدى العراق وأن هذا العمل يجب أن يقوم به المفتشون بناء على قرارات الأمم المتحدة. وتأكيد دائماً الثقة الكاملة بطاقم المفتشين الذين يرأسهم هانس بليكس ود. محمد البرادعي.
رحيل صدام حسين ونظامه أمر مستحسن ولكن غير منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة في شأن العراق.
التأكيد ان الحرب اسوأ الخيارات ولذلك يجب أن تكون آخر الخيارات. وأن لا شيء يشرع الحرب ضد العراق لكون الحرب الأحادية ستتم لأهداف غير واضحة وأسباب غير مبررة. ومنطقة الشرق الأوسط لا تحتاج الى حرب جديدة فهي مثخنة بالحروب والأزمات.
ان الحرب الوقائية ستحول العالم الى غابة مستفرد فيها القوي بالضعيف. فما الذي يمنع غداً مهاجمة كوريا الشمالية التي تمتلك القنابل النووية أو الهند لباكستان؟!
ان ترك المفتشين يتابعون عملهم وينزعون سلاح الدمار الشامل العراقي، سيشكل مثالاً ناجحاً لحل باقي النزاعات، ومتابعة هذه المهمة في مواقع أخرى تبدأ في الهند وتنتهي في الشرق الأوسط.
من أجل هذه الثوابت، اختار شيراك الذهاب بعيداً في المعركة حتى ولو اضطر الى استخدام حق النقض او الفيتو في مجلس الأمن، وهو سلاح وصفته دائماً أوساط الخارجية الفرنسية بأنه مثل القنبلة النووية التي لا تستخدم إلا في المواجهات الشاملة، ومن الطبيعي، أن الديبلوماسية الفرنسية قد عملت لتجنب استخدام هذا السلاح، وذلك من خلال محاولة كسب أصوات الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن وحرمان الولايات المتحدة الأميركية من الأغلبية المطلوبة وهي تسعة أصوات. وقد نجح جاك شيراك في تحقيق هذا الهدف.
ولتحقيق هذا النجاح، اعتمد شيراك حسب أحد مساعديه "سلاح الاقناع الشامل" وهو الهاتف. فخلال الأشهر الثلاثة الماضية، صوب في خطابه التقليدي أمام الديبلوماسيين سياسة فرنسا من الأزمة بعدما فهم كلامه الى العسكريين بالاستعداد الكامل بانه انخراط اولي في الحرب القادمة، ولم يترك رئيساً او مسؤولاً في العالم إلا وحادثه مرة او أكثر. ليقنعه بـ"منطق السلام"، بدلاً من "منطق الحرب". فليس أهم من الكلام المباشر للاقناع خصوصاً عندما يجري بلا حواجز ولا قيود ديبلوماسية.
"البلدوزر" و"النملة" و"الفارس" القاب لرجل واحد هو جاك شيراك، الذي يقف الآن كبيراً بقامته، مستنداً الى تأييد 86 في المئة من الفرنسيين، أي انه قفز فوق النسبة التي حصل عليها استثناءً في الانتخابات الرئاسية. وهو في وقفة العز هذه، ردد مراراً أمام من حاورهم، ان جورج بوش سيربح المعركة منفرداً، لكنه لكسب الحرب سيحتاج للأمم المتحدة وبطبيعة الحال لفرنسا.
جاك شيراك يستحق الآن ان يضيف الى لائحة القابه، لقباً تاريخياً هو حامل جائزة نوبل للسلام.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00