عندما شقّ طريقه الى الإليزيه في منتصف التسعينات، كان العالم غارقاً للتوّ في أحادية حادة، بطلتها الولايات المتحدة الأميركية، وضحاياها الاتحاد السوفياتي وأوروبا والعرب وآخرين.
لم يكن يقوى على مقارعة الجبّار الأوحد، لكنه سعى مرارًا وتكراراً، الى التمايز عنه، أو الى توفير حدّ أدنى من التوازن في مسارح كاد أن يتفرّد بها، كما كان حال الشرق الأوسط.
مع وصوله الى رئاسة الجمهورية العام 1995 كان قد مضى عام على مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، التي طوت صفحة مفاوضات "مدريد" العربية-الاسرائيلية الى أجل غير مسمّى. تعاطفت الإدارات الأميركية المتعاقبة مع اسرائيل، فيما انحاز شيراك للعرب الى حين خروجه من الإليزيه العام 2007.
دشّن صداقته مع لبنان والعرب منذ أن كان عمدة باريس في النصف الأول من الثمانينات، عندما تعرّف الى رفيق الحريري. علاقة دامت ربع قرن، عادت خلالها "الأم الحنون" الى لبنان، وعاد لبنان بوابة للسياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة.
تجاوزت علاقة الحريري بشيراك حدود العلاقات التقليدية بين رؤساء الدول أو الحكومات. بلغ التطابق بينهما في مقاربة قضايا لبنان والمنطقة حدود التماهي في غالب الأحيان.. حتى إذا أطلق بعضهم لقب "البلدوزر" على الحريري، جاء مطابقاً تماماً للقب الذي كان أطلقه الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو على شيراك.
كان إذا أطلق شيراك موقفاً حول شأن لبناني أو إقليمي، نسَبَه بعضهم في لبنان والعالم الى الحريري.. والعكس بالعكس. العلاقات بين لبنان وفرنسا، في زمن شيراك والحريري، ضاهت العلاقات "المميّزة" بين لبنان وسوريا، لترسّم مع علاقات الحريري العربية توازناً في السياسة الخارجية اللبنانية كان مفقوداً لفترة من الزمن.
أما فرنسا شيراك فعادت الى المنطقة من هذه البوابة، لتتبنّى قضايا وملفات عربية ساخنة، انطلقت بعد عام واحد من وصول آخر الديغوليين الى الإليزيه، أي في العام 1996، عندمًا تولّى الدفاع عن موقف لبنان إثر عدوان 1996 الاسرائيلي وصولاً الى ما سُمِّي "تفاهم نيسان". يومها ردّ على تذمّر وزير خارجيته هيرفيه دوشاريت من طول المفاوضات متذرّعاً بعدم امتلاكه أكثر من قميصين في حقيبته بالقول: "لا عودة الى باريس قبل إنجاز مهمتك، وبإمكانك شراء عشرة قمصان على نفقتي الخاصة".
وفي العام نفسه سطّر جاك شيراك مشهداً لا يُمحى من الذاكرة العربية عندما انفجر غاضباً بوجه قائد الشرطة الاسرائيلية بسبب التضييق عليه أثناء زيارة القدس القديمة، قائلاً له: "بنيّ، هل تريدني أن أعود الى طائرتي؟!"
وكي تكتمل سيرته العربية ، أطلق شيراك "لا" مدوّية للقرار الأميركي بغزو العراق العام 2003 فاستخدم حق النقض في مجلس الأمن ، مستعيداً وقوفه الى جانب العراق في حربه ضد ايران (عندما كان لا يزال رئيساً للحكومة بين عامي 1986 و1988) ، وفاتحاً الطريق أمام ملامح ثنائية دولية كانت قد فقدت منذ مطلع التسعينات .
وكما اختلف مع نظيره الأميركي جورج دبليو بوش لسبب عربي ( غزو العراق ) ، توافق معه لسبب عربي آخر، وتحديداً لبناني، عندما وضعا معاً العام 2004 مسودة القرار 1559 الرامي الى انسحاب الجيش السوري من لبنان وحلّ جميع الميليشيات اللبنانية .
هذا القرار الذي كانت أولى تداعياته اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، وسط شكوك من النظام السوري
بدور للأخير في ولادته ، نقلها اليه أكثر من زائر لوزير الخارجية السورية الاسبق فاروق الشرع ، عمد شيراك الى المسارعة لتطبيق البند السوري منه . واستنفر هو ونظيره الأميركي كل طاقاتهما وضغوطهما على امتداد شهر ونيف تلبية لمطلب انتفاضة 14 آذار الشعبية التي نجحت في إخراج الجيش السوري من لبنان .
وعملاً بوصية صديقه رفيق الحريري ، الذي كان نصحه مراراً وتكراراً منذ صدور القرار 1559 بعدم مقاربة البند المتعلق بحلّ ميليشيا " حزب الله " وتركه للحوار اللبناني الداخلي " تجنّباً لأن يتحول لبنان الى جزائر ثانية " ، لم يقارب شيراك هذا البند ، لكنه وصل الليل بالنهار على مدى عامين كاملين وسخّر كل علاقاته الدولية ليضمن إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في مجلس الأمن .. قبل خروجه من الإليزيه .
لم يقلّ جاك شيراك العربي أهمية عن شيراك الأوروبي أو الدولي . ترك بصمات في أماكن عديدة من العالم، وانخرط في قضايا وملفات لا تحصى ولا تعدّ، لكن لمساته اللبنانية وعلاقته "المميزة" مع رفيق الحريري لن تمحَ من ذاكرة اللبنانيين الذين لن ينسوا كيف كان اتصال شيراك يسبق وصول الحريري الى البيت الأبيض أو الكرملين أو مقرّ أي رئيس دولة كبرى للتوصية بالزائر وبلبنان واللبنانيين.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.