بين الاحترار والاحترار، بين الهواء واليباس، بين الشعلة والعشب والشجرة وهي أجمل كائنات لبنان والعالم، وبين جنون الطبيعة. فجأةً كما الموت أحياناً أو كما الولادات العاقر، تنتفض الأرض في مواجهة السماء، أو السماء في مواجهة الأرض، ذوبانٌ بين هشاشة العشب والجذوع والأوراق وفي خراب العناصر. لبنان خانه هواؤه مرةً أخرى، خانه غضبُ الطبيعة، فلا رحمة ولا نسيان ولا ذاكرة. الجبلان في أشداق النار، الجبلان في انتهاب الأخضر والأسود والرماد يجتاح ما تبقى في لبنان من التاريخ الحي من ملايين السنين من وجوه الأرض التي تتهاوى كالخِرَق ورداً وسندياناً وصنوبراً وشوحاً وكينا في لحظاتٍ مشبوبة موصولة أشقى من زلزال وأقصى من فيضان أمامك على شاشات يرتهن التاريخ بتفاصيل الجذوع والهواء والحجارة والبشر (كيف تتحدُ الحجارة بصلابتها وخفة الريح، وهشاشة القامات الملونة بالخضرة والأخضر والأحمر والأزرق والصمت والنهش وسيلان الاجتمار، وكيف يهبُّ الرماد برماديه العدميّ، كيف ينتصر الرماد فجأةً بلا طائلٍ كأنه الموت المبكّرُ صعق ما في الكائنات من أرواحٍ وأجسادٍ وانتظارات).
هكذا بلا توقيتٍ ولا مواعيد، تتخلى الطبيعة عن أرضها وجلدها، عن مواطنها، عن جذورها وتنفض أطلالاً وحطاماً. تهجر الطبيعة منابتها تُحرقُ أسرارها وسرائرها وأسرّتها ترحلُ عن غربتها عن وجوهٍ ألفَتها ومنازل ضمّتها بين أحضانها طويلاً وطويلاً كأنما في أزمنة عشقٍ أبدية.
من خان الآخر؟ الأرض بقبائلها وعناصرها ونواميسها ودوراتها أم الإنسان بأطواره وغدره واستباحته والكُفُر بنعمتها؟ نسي الإنسان في العالم أن الطبيعة لا تحتاج إليه، بل هو من يحتاج إليها. إنها سرّ وجوده واستمراره وحياته، إذاً فلينقضها، فلينتحرها، فليشوّش فصولها، وينتهك مواردها ويستنزف طاقاتها ويُبدّد خيراتها ويقلب أنهارها على أعقابها ويثقب أوزونها بالغازات السامة ويُذيب ثلوجها الأبدية ويبيد كائناتها ويقتل غاباتها ويقطع أشجارها ويخنق هواءها ويُدمّر مصائرها. اعتدى على قدسيتها وكرمها ونُبلها وشرفها وجوهرها. أهلَكَ في سنواتٍ معدودة ما عاشته الطبيعة في ملايين السنوات، فليس للبيئة بيعتها، ولا للتراب خِصبَهُ، ولا للماء بحارهُ وأمطارهُ وأنهارهُ وغيومهُ وينابيعهُ، الأرض تنقرض اليوم كقبائل قديمة محتها الحضارة كشعوبٍ حية أعدمتها ثقافات النهب والجشع والربح والسوق والمصانع وحسابات الواقيت القصيرة.
كأن ما لم يعد للأسماكِ بحارٌ تُوؤيها ولا للطيور والعصافر والفراشات أعشاشٌ في أشجارها ولا حتى للحيوانات غاباتها ولا للهواء كيميائيته الحيوية تتنفسها ولا للفصول مداراتها، ومواسمها. إنها الفوضى الكونية لم يبقَ فيها سوى إنسانٍ جفّت إنسانيته فصار روبوتاتٍ وآلاتٍ صمّاء بلا جذورٍ ولا موطنٍ يترحّل حاملاً بأوبئتهِ وأمراضه وغبائه وعقوقه. خان ربيبته الطبيعة وأمه وأخته وحاضنته ورئتيه وأنفاسه وجسدهُ وعقله... خانها بعلومه واختراعاته وتكنولوجياته وها هي تغضب. نعم! الطبيعة تصبر لكنها لا تنسى. ها هي تغضب في أميركا وأوروبا واليابان والصين وأفريقيا بفيضاناتها هنا وحرائقها هناك وزلازلها واحترارها وجفافها.
غضبت على إنسانها. وها هي اليوم وفي ثلاثاء الرماد من الخامس عشر من تشرين الأول، تُفجّر جنونها المكبوت تُعلن ثأرها التاريخي عندنا. حيث نهشوا جبالها بالكسّارات، لوّثوا أنهارها بالقذارات والأوبئة، زرعوا بحارها بالسموم، أفسدوا زرعها بالمُبيدات. وها هي اليوم في الجبال والسواحل تثأر من أبنائها. بل ربما تثأر من نفسها، فالطبيعة أيضاً قادرة على الانتحار: عليّ وعلى أعدائي. تحرقُ نفسها أمام الملأ، تغزو بنيرانها المنازل وتحوّل السيارات خردةً سوداء.
إنها لغة الغضب، لغة الرماد، لغة الانتقام، لغة الطبيعة بكل ثورتها وهيجانها وعمائها ووحشيتها وهمجيتها.
إنها ثلاثاء الرماد.
الثلاثاء حيث ارتدّت فيها الطبيعة على كائناتها وناسها عندنا بلا رحمة ولا نسيان ولا ذاكرة ولا مغفرة. إنَّ الطبيعة ظالمةٌ ومظلومة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.