وأخيراً، استقال رئيس الحكومة سعد الحريري وتنفّسَ مئات ألوف المتظاهرين الصعداء. وكأنما يقول لسان حالهم: كنّا نعلم أنك معنا وستنضم إلينا، إلى وجعنا وقهرنا وفقرنا وضيقنا بهؤلاء الفاسدين الذين يُحاضرون بالعِفّة، وهؤلاء المتربّصين بالبلد وهم يهتفون بالوطنية. تأخرت ولم تتأخر. أخّرك تمسكك بمعالجة الأمور وتلبية مطالبنا وإنقاذ البلد من قمراته الاقتصادية والسياسية، ومن أزماتِ حُكمه ومن تنمّروا على السلطة. كنا نقول: "إنك الأمل، والتفاؤل، ونظافة الكف، والسريرة، ولهذا كنت بالنسبة إلينا برغم بعض من شغب هنا وهناك وبعض من صوب عليك سهاماً، الرجل المنتظر، رجل الدولة، رجل الوطن، رجل خلاص البلد ممن يظنون أنفسهم أكبر من بلدهم".
صرخ المتظاهرون وهتفوا وصفقوا وهللوا عندما أعلن الحريري استقالته لا فرحاً بتجليل انتصارٍ عليه، بل فرح بتحقيق انتظاراتهم. صحيح أنهم رشقوا العديدين من أهل السلطة بما يستحقونه. لكنهم كانوا دائماً يستثنوك. أنت المستثنى بالنسبة إلينا، نحن الشبان والشابات والكهول وحتى العجائز الذين كنا نشهد وطننا ينهار شيئاً فشيئاً، ونرى حدودنا مستباحة، وأمورنا منتهكة واقتصادنا منهوباً ومستقبلنا مجهولاً وتاريخنا مشوهاً وحاضرنا مسلوباً، كنا نشهد ذلك ونحنُ نشعرُ بالعجز حتى باليأس بل بالرضوخ للأمر الواقع وكأنه قدرٌ لا يُردّ كما فعل بعض آبائنا على امتداد نصفِ قرنٍ من الظلم والاحتلالات والوصايات والحروب المجانية والخراب والضحايا...
آباؤنا كانوا شهوداً على انكسار لبنان، واستفراسه من قبل الوحوش والطامعين والهمجيين.. وها نحن في حاضرٍ قد يكون تغيّر شكلاً وبقي عمقاً على حاله. فكأننا نسترجع ما يسمى "العودة الأبدية" أو "تكرار التاريخ" أو "تكرار المسرحيات" ذاتها بأقنعةٍ أخرى. ذلك أن لبنان كأنما صار قناعاً لوجوهٍ ليست منه ولا من جلدته ولا من أصوله ولا من ترابه...
وكأنما كنا غائبين، وياللأسف. تخدرنا المذهبية، تصيب انتماءاتنا ووعينا وولاءاتنا ووطنيتنا وسيادتنا.. كيف كنا طائفيين كل هذه المدة أعداءً لأنفسنا ولحياتنا؟ أيُّ سرطانٍ افترس عقولنا؟ أي غبارٍ حجب عقولنا عن الواقع؟ .. نصفّقُ ونموتُ لمن يقتلنا ويسرقنا ويخوننا ويذبحنا ويصادرنا؟ أقطيع خرفانٍ كنا؟ يسوقنا رعاةٌ شعبويون عنيفون بعصاً هنا وبمجزرة هناك وبحروب أهلية هنالك وبإرهابٍ دائم؟
شهدنا ونشهدُ أننا اليوم كمن ضربتنا صاعقةٌ أو كمن افترعتنا معجزة.. لا لهؤلاء لا لتجار الطوائف والدين لا لنهّابي خيراتنا لا لمصادري الدولة لا لباعة الوطن بأبخس الأثمان. أعدنا العلم اللبناني إلى شرفاتنا وشوارعنا وأيدينا وصدورنا. علمٌ واحدٌ عندنا فليُحرق كل علمٍ موبوءٌ باحتلالٍ أو بفساد. نعم اكتشفنا كمن انفجرت أنوار شموس في قلوبنا وعقولنا فصفت وانقشعت فرأينا أن كل اللبنانيين منا ونحن منهم إننا لبنانيون، نعم. ولبنان أولاً، نعم. فلتسقط الحواجز المذهبية والكونتونات والمناطق المغلقة والدويلات المعلنة وغير المعلنة، التي كانت تزرع الفرقة بيننا، نعم، الجيش جيشنا ولتسقط كل الجيوش غير الوطنية المستوردة، وكذلك قوانا الأمنية، أسقطنا ثلاثية الذل والوصاية: "الشعب الجيش المقاومة" لنرفع: "الشعب كله الجيش كله الدولة المدنية كلها".
كأنما نلتقيكَ يا سعد. وكأننا وإن خشينا ما تعودنا خشيته بالآخرين فإن قناعاتنا لم تهتز بك ولا ثقتنا حتى عندما كنت رئيساً لحكومة أصابك فيها ما يصيبنا اليوم من حصارٍ وتهويلٍ وتخوينٍ واستيعاب.
انتظرناك في الساحات المضيئة، من طرابلس عاصمة الثورة، إلى ساحة الشهداء قلبها، وإلى صور عروسها، والنبطية صدرها، وكفرّمان عنوانها، وجبيل وبعلبك وجل الديب والأشرفية والبقاع وعكار وتبنين... انتظرناك فجئت. لكننا، يا دولة الرئيس، وكما آمنا بهذا الوطن الجميل، كنا ننتظر أن يُحطِّم بعض من تنكّروا سابقاً أسوار المذهبية. أن يحطّموا القضبان.. لا شيعة في أقفاص، ولا موارنة وسنة ودروز وأرثوذوكس يرزحون تحت أغلال الموتى وأشباح الماضي.. سلسلة واحدة من الجنوب إلى طرابلس: سلسلة بشرية كسرت كل السلاسل المصطنعة تصرخ: نحن اللبنانيين في الوطن والمغترب نبني لبناناً جديداً لم نعهده منذ عام 1860 وحتى الآن.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.