في التاسع من تشرين الثاني – نوفمبر 1989، أي قبل ثلاثين عاما، سقط جدار برلين. مع سقوط الجدار سقطت أشياء كثيرة من بينها الاتحاد السوفياتي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في بدايات العام 1992. قبل ذلك، توحّدت المانيا وتحرّرت كلّ دول أوروبا الشرقية من نير الشيوعية التي لم تكن سوى شعارات فارغة لا هدف لها سوى فرض هيمنة الاتحاد السوفياتي بالحديد والنار وعبر شخصيات كاريكاتورية على جزء من أوروبا.
لم يقتصر الامر على تحرّر المانيا الشرقية وعودتها الى المانيا، بل تحرّرت تشكوسلوفاكيا التي صارت دولتين هما تشيكيا وسلوفاكيا. تحرّرت بولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا. اصبح حكام مثل الديكتاتور الروماني نيقولاي تشاوشيسكو في مزبلة التاريخ.
سقط مع جدار برلين نظام عالمي وضعت اسسه نهاية الحرب العالمية الثانية واتفاقات بين كبار المنتصرين فيها. في الواقع، لم يكن هناك سوى منتصرين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللذين قررا اقتسام العالم وتحويله الى مناطق نفوذ لكلّ منهما.
مع سقوط جدار برلين، انتهت عمليا الحرب الباردة التي دامت اقلّ من خمسة وأربعين عاما. الاهمّ من ذلك كلّه، ان الاقتصاد الحرّ انتصر على الاقتصاد الموجّه الذي تبيّن انّه لا يستطيع ان يبني دولا بمقدار ما يستطيع ان يبني مؤسسات امنية تدير دولا. حاول ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي انقاذ ما يمكن إنقاذه عبر "بيرسترويكا" و "غلاسنوست"، لكنه اكتشف في نهاية المطاف ان بلدا مثل الاتحاد السوفياتي لا يستطيع لعب دور القوة العظمى في المدى الطويل في غياب اقتصاد قوي.
مرّ العالم في السنوات الثلاثين الماضية بمراحل عدّة. من الهيمنة الاميركية الكاملة على القرار الدولي، الى صعود الصين وتحوّلها الى قوة اقتصادية تتحدّى الولايات المتحدة من دون ان تتحدّاها... الى عودة روسيا، بفضل فلاديمير بوتين، الى لعب دور خارج حدودها ولكن من دون أحلام كبيرة في حجم تلك التي راجت ايّام الاتحاد السوفياتي. تظلّ روسيا دولة متخلُفة اقتصاديا. لكنّها دولة خطرة بسبب امتلاكها الصواريخ البعيدة المدى والسلاح النووي. هذا ما حذر منه غورباتشوف في الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين. دعا غورباتشوف في حديث مع "بي. بي. سي" الى التخلص من السلاح النووي الموجود لدى اميركا وروسيا وآخرين والذي ما زال يشكل خطرا على العالم كلّه. ما يعطي فكرة عن حدود دور روسيا خارج حدودها كونّها لا تواجه حاليا مشاكل كبيرة في سوريا بسبب الغطاء الاميركي لوجودها العسكري في هذا البلد المفتّت.
بعد ثلاثين عاما على سقوط جدار برلين ودخول العالم مرحلة القطب الواحد ثم مرحلة الفوضى المنظمة التي يرعاها حاليا دونالد ترامب في ظلّ تقلّص كبير للدور الاوروبي على كلّ صعيد، لا بد من العودة الى مرحلة السنوات العربية التي ترافقت مع انتهاء الحرب الباردة. قلّة بين الزعماء العرب التقطت رياح التغيير. كان الملك حسين بين هذه القلّة التي لا يتجاوز عدد افرادها أصابع اليد الواحدة. استوعب باكرا اخطار العاصفة التي بدت المنطقة مقبلة عليها فباشر إصلاحات سياسية كبيرة في الأردن بدءا بإعلان فكّ الارتباط مع الضفّة الغربية في 1988. وما لبث ان اتبع ذلك باجراء انتخابات عامة في الأردن وذلك بعد سنوات طويلة من غياب الحياة البرلمانية. جاء موعد الانتخابات التي أشرفت عليها حكومة برئاسة الأمير زيد بن شاكر في الثامن من تشرين الثاني – نوفمبر 1989، أي في اليوم الذي سبق سقوط جدار برلين. هل الامر صدفة ام انّه دليل على الرؤية الثاقبة للحسين بن طلال؟
امتلك العاهل الأردني الراحل ما يكفي من الخبرة في شؤون المنطقة والعالم كي يذهب سريعا الى استيعاب ما سيترتب على نهاية الحرب الباردة وانعكاسات ذلك على دول المنطقة وكياناتها. انعكس الاستيعاب الأردني الباكر للمستجدات الإقليمية والدولية على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. فهم "أبو عمّار"، بعد تحرّره من القيود السوفياتية التي حولّت قضيّة فلسطين ورقة في يد موسكو، انّه لم يعد امامه سوى السعي الى الذهاب الى واشنطن معتمدا سياسة واقعية. تمثّلت هذه السياسة بادانة الإرهاب علنا في مؤتمر صحافي انعقد في جنيف ثم ببدء حوار على مستوى معقول مع الإدارة الاميركية. كانت تونس، حيث مقرّ قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، المكان الذي استضاف ذلك الحوار الذي عطلته لاحقا مواقف الزعيم الفلسطيني الخرقاء من الاحتلال العراقي للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990.
جاء سقوط جدار برلين في وقت كان لبنان يمرّ في مرحلة جديدة بعد إقرار اتفاق الطائف، برعاية سعودية، في الثلاثين من أيلول – سبتمبر من العام 1989. شعر النظام السوري بخطورة هذا الاتفاق عليه، خصوصا انّه كان يحظى بغطاء عربي ودولي. كانت ردة فعله الاولى لدمشق التخلّص من الرئيس المنتخب رينيه معوض في الثاني والعشرين من تشرين الثاني – نوفمبر 1989 نظرا الى انّه كان يمتلك تلك التغطية اللازمة التي التي ستجبر السوري على بدء التفكير في الانسحاب عسكريا من الأراضي اللبنانية. نجح الرهان السوري على التخلّص من رئيس الجمهورية الجديد رينيه معوض. وفّر له صدّام حسين فرصة لا تعوّض لتعويم نفسه وذلك عندما اعتقد انّ شيئا لم يتغيّر في هذا العالم وانّ الاتحاد السوفياتي ما يزال موجودا وانّه يمكن اللعب على المنافسة بين القوتين الكبيرتين ضمن هامش معيّن.
جاءت الفرصة التي التقطها حافظ الاسد من خلال الاحتلال العراقي للكويت. سارع الأسد الاب الى الانضمام الى التحالف الدولي، على رأسه اميركا، الذي كان يستعد لحرب استعادة الكويت من العراق. كان الوجود العسكري السوري الرمزي في حفر الباطن كافيا كي ينسى العالم الوجود العسكري السوري في لبنان الذي بقي حتّى العام 2005. كان دمّ رفيق الحريري، الذي لعب دورا محوريا في التوصّل الى اتفاق الطائف، كفيلا بإخراج السوري من لبنان.
تعاطى حكام المنطقة الشرق الاوسطية من العرب، كلّ على طريقته في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين. هناك من فهم التغييرات العالمية مثل الملك حسين وهناك من لم يفهمها مثل صدّام حسين وهناك من حاول ان يفهم مثل ياسر عرفات وهناك من استلحق نفسه مثل حافظ الأسد.
هناك أخيرا الراحل علي عبدالله صالح الذي التقط كلّ الإشارات التي كان مطلوبا التقاطها، فذهب الى تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من ايّار – مايو 1990. صحيح ان موقف الزعيم اليمني الجنوبي علي سالم البيض ساعده في تحقيق الوحدة. لكن الصحيح أيضا انّ هذه الوحدة، التي باتت الآن من الماضي، ما كانت لتتحقق لولا سقوط جدار برلين...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.