بمَ تختلف هذه الثورة (او الانتفاضة) عن سابقاتها في لبنان، من الثورة على الاستعمار العثماني إلى الثورة على الانتداب الفرنسي، فإلى ثورة الارز، فإلى الثورة الراهنة؟.
هناك قواسم مشتركة في معظم هذه المحطات: الاستقلال والسيادة وترسيم حدود لبنان الكبير ووضع الدساتير وبناء الدولة وتقاسم السلطة بين "اجنحة لبنان الطائفية".
الثورات الثلاث المذكورة كانت محطات لاقامة مجتمع تعددي ليس على اساس الافكار او الايديلوجيات. لانها ارتبطت بصراع القوى الخارجية بين الامبراطورية العثمانية المريضة واوروبا وتحديداً فرنسا وانجلترا. وقد تم الانتقال من انتداب إلى انتداب وكأنه تعبير ما عن تغير او تراجع القوى المتصارعة.
فالفرنسيون وضعوا دستور لبنان الكبير وحدوده في بلدٍ كان شعبه مقسماً بين ولاءات مذهبية للخارج: الموارنة وأمهم الحنون فرنسا والارثوذكس وروسيا وبعض الزعمات كشمعون وعلاقته بحلف بغداد وانجلترا وبنور السعيد.
لكن ما هو مدهش ان المسيحيين والاسلام واجهوا الامبراطورية العثمانية معاً، وهو من اللقاءات الاولى بينهم منذ حروب 1860، وتكرر الوضع بالمطالبة بالاستقلال وانهاء الانتداب الفرنسي: المسلمون المسيحيون الدروز كأنما تمردوا على كل مرجعياتهم الاستعمارية واجبروا الفرنسيين على الاعتراف باستقلالهم.
واذا كانت هذه الانتفاضات المذكورة غلب عليها دور الزعامات السياسية والطائفية تماماً كثورة الارز التي اخرجت الوصاية السورية من لبنان، اي انها كانت من صناعة الاحزاب وهذا كان مصدر قوتها وهشاشتها، فإن ثورة اليوم فكأنها تعبير عن شبه قطيعة مع السلطة او النظام لا الدولة طبعاً ومن يمثلهما فإن ثورة اليوم كأنها تعبير عن شبه قطيعة مع السلطة الراهنة او حتى النظام، ومن يمثلهما.
ثورة على الآباء الذين لم يستفيدوا من ثورات الاستقلال لبناء دولة مدنية منيعة بل شكلوا ما يشبه الكنتونات المذهبية والسياسية ليس على مساحات البلاد فقط بل داخل المؤسسات والحكومة والوظائف ورئاسة الجمهورية والنواب.
ومن خلال ذلك اقاموا تركيبة محاصصات تتسم بالتواطؤ، بل انهم وقعوا تحت هيمنة سوريا وإيران وكذلك إسرائيل. صحيح ان الثورة الحالية انطلقت ضد فرض ضريبة على "الواتس آب" لتتطور المطالب وتطال الفساد المستشري إلا ان بعض شعاراتها العالية، إسقاط النظام كله باحزابه وحركاته. ثورة من خارج النخب ومن خارج الايديلوجيات والتأثيرات الخارجية بل من الواقع المعيش والمعاناة السيادية طبعاً.
بمعنى آخر ثورة شابلة بشعاراتها: حاسمة جذرية: شرعية الشعب هي الشرعية الجديدة لا الشرعية الدستورية. هذه السقوف العالية تطرح أسألة بالطبع. وكذلك توسيع مراوح المطالبات التي تكاد تغطي على ما هو جوهري. السؤال: اين موقع سعد الحريري من هذا كله؟ صمت طويلاً وصبر مديداً من اجل انقاذ الوضع الاقتصادي، وتحمل من اجل ذلك مالا يحتم خصوصاً وان بعضهم اساء التفكير بتوصيف مواقفه بتنازلات. لكن هذه التوصيفات عندما طفح الكيل من جهة وانطلقت الثورة الشبابية من جهة اخرى استقال انحناءً لهذه الثورة متبنياً مطالبها الاساسية كشرط للقبول برئاسة حكومة جديدة حكومة تحتضن حقوق الثورة في الشارع اي حكومة تيكنوقراط خالية من الاحزاب. ولا نظن انه يسعى عبر شروطه والضمانات التي يطلبها إلى التعجيز او الهيمنة الاحادية على الحكومة بل كسب ثقة الشعب المنتفض من جهة وكسب ثقة المجتمع الدولي الذي ابدا استعداداً لدعم لبنان وانقاذ وضعه الاقتصادي.
فلا الداخل اللبناني المنتفض عنده ثقة بالسلطة الحاكمة ولا العالم الخارجي. وهنا بالذات ارتفعت اصوات معارضة لها: اين نتائج الانتخابات النيابية اذاً؟ اين التوازات الداخلية اذاً؟ وهل يمكن حكومة اختصاصيين ادارة شؤون البلاد كلها؟ هذه مواقف حزب الله والتيار الوطني الحر وصولاً إلى رئيس الجمهورية الذي يريد بنفسه تأليف حكومة تيكنوقراط سياسية مناقضاً الدستور اللبناني. اي عودة الى المربع الاول اي خروج السلطة الراهنة من الباب والعودة من الشباك. فسعد الحريري بين تمسك الاحزاب بحصصهم وبين المواقف الحاسمة للحراك مازال حتى كتابة هذه السطور صامداً وإن لاحت في الافق تصاريح ومواقف غربية تؤكد موقفه حتى الان مع احتمال تعديل هنا او هناك. الحريري بين ثورة انحاز اليها وبين خروج من موقع قد يكون ضحى به مازال شاغله: كيف يمكن انقاذ هذا البلد من جهة ومنع شبح الفراغ الذي شبع منه الجميع.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.