دخلنا في أجواء مئوية إنشاء لبنان الكبير، كما رسمته فرنسا، أي لبنان الوطن النهائي بحدوده وشعبه وسيادته وتاريخه. لكن هذا اللبنان الكبير وكأنه لردحٍ من الزمن بقي مجرد حبر على خارطة افتراضية. إذ بقي كل شيء في كأنه نظام مؤقت أو أرض مؤقتة أو شعب مؤقت. فأجزاءٌ من ناسه لم يصدقوا ذلك أو لم يعترفوا بذلك أو يعملون عكس ذلك: إما تحت تأثيرات أيديولوجية (وحدوية عربية) أو تحت مشاريع أمميات مفتوحة، أو بسبب تكوينه الطائفي. كلنا يعلم أن كل طائفة (وبعدها كل حزب) كان له أمه الحنون في الخارج، تمده بالدعم والحماية وتحتضنه ليبقى منفذها أو سبيلها إلى النفوذ: من العثمانيين إلى الفرنسيين فإلى الروس (في القرنين الثامن والتاسع عشر).
فتركيبة لبنان الكبير كمجموعة طوائف كانت نقطة ضعفه لا قوته (كما يدّعي كثيرون) وعلى هذا الأساس عرفنا حروباً طاحنة دموية بين هذه الطائفة أو تلك (أقدمها أحداث 1860 بين الدروز والموارنة)... ثم تتالت هذه الظواهر وتفرعت وها هي مستمرة حتى اليوم... صراعاتٍ على الوجود أحياناً ونزاعات على السلطة أحياناً أخرى. وهذا ما يُفسر أحداث 1958 و 1975 وحروب إسرائيل علينا واختراقها وطننا. فلبنان كما هو معروف جغرافياً واقع بين دولتين توسعيتين: سوريا، وإسرائيل. وكل منهما لم ترسما حدودهما بشكل نهائي مع لبنان، بل هو مفتوحٌ لكل من يسعى إلى الانخراط في هذه النزاعات أو استغلال المذهبية حتى تدمير لبنان كما فعلت المقاومة الفلسطينية.. التي انتزعت اسرائيل وطنها وحدودها وشعبها وتاريخها. ولعل ارتباط كل طائفة بحسب الظروف بمرجعية خارجية هو الذي أبقى لبنان الكبير (الذي صار مجرد مجمّعات ميلشياوية في الحرب السابقة بلا حدود جامعة وبلا وطنٍ نهائي وبلا وضعٍ مستقر)، رجراجٌ بين التدخلات ومهدد بوجوده بين الطامعين فيه. والبوابة الكبرى لتسرب هؤلاء هي الطائفية.
من هنا نظن أن المذهبية التي لم تغب تماماً عن تاريخ لبنان الحديث، هي الفعل التفكيكي لهذا البلد بل هي المحرك الأساسي ليبقى وطناً مؤقتاً. من هنا نتذكر السيد موسى الصدر عندما أعلن أن "لبنان وطن نهائي لكل اللبنانيين" عندما كان مشرذماً أو مُحتلاً من ثلاث جهات: إسرائيل، سورية، المقاومة الفلسطينية. بل نظن أن أحد أسباب تغييب السيد موسى الصدر ليست بعيدة عن موقفه الوطني والتوحيدي هذا.
لماذا نردد هذه اللازمة؟ لأن وضعنا اليوم الذي أدرك الأسافل والإفلاس والوصاية (الإيرانية) يقول ذلك: لم يعُد في هذ البلد سوى مذهبياتٍ مُطلقة فلا يسار ولا يمين ولا صراع سياسي، ولا ثقافة ولا انتماء. افترست الطائفية كل شيء. وهذا ما يُفسر التدخلات الخارجية على لبنان.
هذا الواقع كأنما كاد يتأصل فينا ويصير جزءاً من عيشنا وتفكيرنا ومآلنا حتى اندلعت ثورة 17 تشرين الأول. ونقولها بكل بساطة. وبصرف النظر عن مطالب هذه الثورة وشعاراتها فهي للمرة الأولى تُعلن فيها لبنان وطناً نهائياً، لبنان الكبير كبيراً، عندما عبرت تحركاتها كل المناطق والمذاهب والمشارب والطبقات. ومدت جسوراً حتى إلى الكونتونات التي تصادرها حركاتٌ مذهبية مسلحة... يكفي أن يُظلل هؤلاء الشبان العلم اللبناني ويرفرف جديداً نظيفاً نقياً بين أيديهم. لكي يصبح هذا العلم رمزاً للبنان الواحد الموصول. ونظن أن هؤلاء المنتفضين طَووا وللمرة الأولى صفحة الصراعات الطائفية الممتدة على نحوِ قرنٍ ونصف، فهؤلاء الشبان اكتشفوا من خلال تجاربهم وأحوالهم ومعاناتهم وغربتهم أن المذهبية تُصنع كصناعة أي سلعة فلها مكوناتها التي تبرع فيها أحزابها لتستمر في سوق الناس كالقطعان. وهذا بالذات ما زلزل الأرض تحت أقدام هؤلاء، فبدون المذهبية ماذا عساهم يقدمون للناس، أفسادهم، او عمالتهم، أو ارتهانهم للخارج، أو استراتيجياتهم المفقودة؟! وماذا عندهم سوى هذه الآفة المخدرة الأفيونية أي المذهبية، ليلغوا فيها مواصفات شعبهم.
ونرى أنه إذا نجح هؤلاء الثوار في إكمال مشوارهم الشاق بين القتلة واللصوص والعملاء، فيقوم حقاً لبناناً جديداً: لبنان ما بعد المذهبية، لبنان ما بعد وصاية الخارج، لبنان المستقل السيادي الكبير، بل لبنان الكبير، بل وأيضاً لبنان الوطن النهائي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.