من الواضح انّ المؤسسة العسكرية في الجزائر سجلت أخيرا نقاطا مهمّة. أظهرت كم هي قادرة على الصمود في وجه أي تغيير من ايّ نوع. ولكن هل التغيير عيب، خصوصا اذا كان نحو الأفضل واذا كان مطلبا شعبيا؟
في مقدّم النقاط المهمّة التي سجلتها المؤسسة العسكرية تأكيد انّها لا تزال اللاعب السياسي الأساسي والمحوري في الجزائر. يدلّ على ذلك النجاح في اجراء انتخابات رئاسية في الثاني عشر من كانون الاوّل – ديسمبر الجاري من منطلق انّها المؤتمنة على الدستور. تسلّحت بالدستور كي تفرض ارادتها وتحول دون تغيير كبير او حتّى صغير في طبيعة النظام كما كان يشاء مئات آلاف الجزائريين الذين نزلوا الى الشارع منذ شباط – فبراير الماضي وحالوا دون ولاية خامسة لعبد العزيز بوتفليقة. وهي ولاية كانت تمديدا لحكم الجزائر عن طريق رجل مقعد لا يستطيع الكلام تديره المجموعة الضيقة المحيطة به، على رأسها شقيقه سعيد.
اسفرت الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الثاني عشر من كانون الاول- ديسمبر عن فوز شخصية تابعة للمؤسسة العسكرية منذ الدورة الاولى، مع ما يعنيه ذلك من كشف للنفوذ الذي يتمتع به العسكر من جهة ورغبتهم في المحافظة على نظام هواري بومدين القائم منذ العام 1965 من جهة أخرى.
كانت النقطة المهمّة الثانية التي سجلتها المؤسسة العسكرية تعيين اللواء سعيد شنقريحة، قائد القوات البرّية رئيسا للاركان بمجرد الإعلان عن وفاة نائب وزير الدفاع رئيس الأركان اللواء احمد قايد صالح الذي ادار مرحلة التخلّص من عبد العزيز بوتفليقة ومجموعته وصولا الى انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية من الدورة الاولى.
ما لا بدّ من الاعتراف به ان احمد قايد صالح، الذي تجاوز الثمانين عاما، ادار مرحلة التخلص من بوتفليقة واجباره على الاستقالة، وصولا الى انتخاب تبّون رئيسا بطريقة جدّ معقولة، بل بجدارة. تحدّث الى الجزائريين من موقع الاب الحنون والصالح الذي لا يريد سوى الخير للبلد. لم يكن لديه سوى شرط واحد هو شرط التمسّك بالدستور وتنفيذه مواده التي تفرض انتخاب رئيس جديد للجمهورية اثر استقالة بوتفليقة، او اقالته. ما ساعده في ذلك ان الجميع كان يعرف انّه لا يمتلك ايّ طموحات سياسية بعدما تجاوز الثمانين من العمر. فالرجل خلق صورة مقبولة لدى كثيرين نظرا الى انّه لم يكن يريد شيئا لنفسه. على العكس من ذلك، لعب دور حامي المؤسسة العسكرية والناطق باسمها وذلك تحت مبرّر حماية الدستور وتطبيق مواده.
لا يمكن الاستخفاف بالدور الذي لعبه احمد قايد صالح في عهد بوتفليقة وفي عملية انهاء هذا العهد. كان في مرحلة معيّنة غطاء للهجمة التي شنّها بوتفليقة على المؤسسة العسكرية بهدف اخضاعها. بلغت هذه الحملة ذروتها لدى اقالة الجنرال محمد مدين (توفيق) الذي كان رجلا غامضا يعمل في الظل من خلال سيطرته على المخابرات العسكرية. كان "توفيق" يمثل السلطة البديلة، أي السلطة الحقيقية التي لا تمس. تجرّأ عليه بوتفليقة، او المحيطون به، فيما بقي احمد قايد صالح صامتا. هناك من حسب ان الولاية الخامسة لبوتفليقة ستكون نزهة. عرفت المؤسسة العسكرية، على الرغم من كلّ ما تعرّضت له المحافظة على تماسكها. وعندما وجد احمد قايد صالح الفرصة المناسبة انقضّ على الرئيس الجزائري وما صار يعرف بـ"العصابة". استغلّ العسكر الحراك الشعبي المستمر منذ نحو 45 أسبوعا. وظفوه في خدمة الانتقام من بوتفليقة، كما وظّفوا احمد قايد صالح جنرالا برتبة قناع يكسبون من خلاله الوقت.
لكنّ هذه النقاط التي سجلتها المؤسسة العسكرية ستظلّ انتصارا موقتا محفوفا بكل المخاطر على بلد مهمّ من نواح كثيرة، في غياب القدرة على الخروج من حال الجمود السائدة والعناد. تعني حال الجمود، التي يرافقها العناد، اوّل ما تعني رفضا للتطلع الى المستقبل والخروج من اسر عقد الماضي، بما في ذلك الاعتراف بانّه لا يمكن بناء اقتصاد على الدخل الاتي من النفط والغاز فقط. هناك حاجة الى تنويع الاقتصاد الجزائري واستغلال ثروات البلد، بما في ذلك ثروة الانسان الجزائري الذي لا ينقصه شيء، باستثناء انّه سقط ضحيّة نظام امني قضى على كل إمكانية لانطلاق البلد نحو آفاق جديدة بعدما قام هذا النظام الامني بكل الثورات الفاشلة. من ثورة بناء صناعة ثقيلة، الى الثورة الزراعية... الى التعريب الاعتباطي الذي جعل الجزائريين ينسون الفرنسية ولا يجيدون من العربية باستثناء ما علّمهم ايّاه الاخوان المسلمون والبعثيون الذين استُوردوا من مصر وسوريا والعراق!
جعلت هذه العقد من العناد سياسة ومن اللجوء الى المنطق بمثابة خيانة لـ"ثورة المليون شهيد". ورقم المليون اقرب الى الخيال الخصب والاساطير الشعبية والشعارات الطنانة من أي شيء آخر. بل هو غطاء لتبرير العجز عن إقامة نظام منفتح يتمتع بحدّ ادنى من القيم الديموقراطية والانسانية والرغبة في الانتماء الى العصر بعيدا عن المتاجرة بمرحلة الاستعمار الفرنسي. كانت هذه المرحلة الطويلة بغيضة بالفعل. لكن فرنسا تجاوزتها وتلت فعل الندامة. كان في استطاعة الجزائر تجاوزها لو قام نظام جمهوري افضل من ذلك الذي كان قائما ايّام الاستعمار بسيئاته الكثيرة.
يوحي انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا ثم تعيين اللواء سعيد شنقريحة رئيسا للاركان خلفا لاحمد قايد صالح بان الجمود يظلّ سيد الموقف في الجزائر. ليس كافيا ان يكون اللواء شنقريحة قائدا للقوات البرية كي تكون خلافته لاحمد قايد صالح امرا طبيعيا. ما حصل يدلّ على رغبة في البقاء في اسر الجمود وفي رفض أي تطور حقيقي على الصعيد الداخلي. كلّ ما في الامر ان المؤسسة العسكرية تكرّر نفسها بعدما نجحت في صدّ الهجوم الذي شنّه عليها عبد العزيز بوتفليقة والمجموعة المحيطة به.
ما يستحقّ التوقف عنده انّ هناك تطورات تجري على صعيد المجتمع الجزائري، خصوصا الجيل الشاب الذي لا علاقة له باسطورة "ثورة المليون شهيد". هذا المجتمع يريد التغيير ويريد تغييرا في العمق. الى متى تستطيع المؤسسة العسكرية مقاومة التغيير عن طريق سلاح الجمود؟
يفترض في المؤسسة العسكرية طرح هذا السؤال على نفسها، خصوصا انّه لم يعد في العالم رؤساء للاركان تجاوزوا الخامسة والسبعين من العمر مثل اللواء شنقريحة الذي يرفض فكرة الابتسام أصلا. لماذا لا تصبح الجزائر في يوم من الايّام دولة مبتسمة، لماذا لا تقتنع المؤسسة العسكرية بانّ التغيير ضرورة وانّ لا امل يرجى من إعادة انتاج نظام فاشل في بلد يستحقّ ان يكون بلدا طبيعيا مبستما من دون عقد...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.