أخبار لبنان

سمير فرنجية..سيبقى حاضرًا في ذاكرة لبنان الرسالة

تم النشر في 20 نيسان 2020 | 00:00

د. مصطفى متبولي*

انتماء سمير فرنجية الى اليسار اللبناني لم يكن انكارًا لعائلته بل هو استمرار لنهج والده حميد فرنجية المدافع عن حق المواطن بالتعليم والصحة وبالحياة الكريمة. لقد عاش في بيت سياسي وطني ونهل من ينبوع والده حميد فرنجية، احد آباء الاستقلال، حب لبنان الوطن السيد المستقل، المنفتح على محيطه العربي والمتضامن مع قضاياه العادلة وفي مقدمتها قضية فلسطين.

كان من قادة الحركة الطالبية التي ساهمت بتعزيز دور الجامعة اللبنانية... وكان رفيقًا للشهيد كمال جنبلاط و لعب دورًا كبيرًا في الحركة الوطنية اللبنانية. وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان شريكًا اساسيًا في اعلان انتفاضة الاستقلال وقد انتخب نائباً ( 2005-2009 ) و لم يترشح للنيابة فيما بعد.

طوال سيرته السياسية كان سمير فرنجية عصيًا على الضغوطات الدينية والمذهبية والسياسية والمناطقية؛ كان مؤمنًا بالحوار الوطني بين اللبنانيين ومن دون اي وصايات و تدخلات أجنبية وبان قيامة لبنان لا يمكن ان تنطلق اذا كان احد مكوناته يخضع لهيمنة الآخر من شركاء الوطن. و كان سمير فرنجية يردد دائمًا بان بناء لبنان الوطن والدولة العادلة ركيزته الأساسية الاعتراف باللبناني الآخر وبخصوصيته في اطار الوحدة الوطنية وحق الاختلاف معه وتفهم هواجسه وعدم تخوينه وعزله.

وهذه المبادىء الوطنية لرؤية سمير فرنجية السياسية التي آمن بها و عمل من أجل تحقيقها تلاقت مع رؤية رفيق الحريري حول كيفية انهاء الحرب الأهلية اللبنانية العبثية وإعادة إحياء لبنان الوطن والرسالة من خلال الحوار الوطني بين اللبنانيين جميعًا ومن دون استثناء اي فريق سياسي. وهذه الرؤية السياسية المشتركة بين رفيق الحريري وسمير فرنجية اثمرت فيما بعد وثيقة الطائف سنة 1989. وحول هذا الموضوع كتب سمير فرنجية " ان وثيقة الطائف لم تُبصر النور الا بفضل جهود رفيق الحريري، لقد أُتيحت لي فرصة التعاون مع هذا الرجل منذ العام 1987 في التحضير لصيغة اتفاق بين اللبنانيين. والحق يُقال انه ادهشني بيقينه الوطني وقوة تصميمه وقدرته على اجتراح التسويات. لا يثنيه عن غايته اي عائق مهما بدا صلبًا...كان الرجل مسكونًا برغبة وايمان قويين في إعادة بناء لبنان السلام، وكان يتملكه العجب من اصرار قادة الحرب على مواصلة القتال ورفض اي تسوية. هم في نظره ينتمون الى عالم بائد، هو عالم الحرب الباردة التي كانت آنذاك تلفظ انفاسها الاخيرة..." ( انظر سمير فرنجية، رحلة الى اقاصي العنف، بيروت، شرق للكتاب، آذار 2012، ص ص 93-94 )

و استنادًا إلى الرؤية الإستشرافية لرفيق الحريري أكد اتفاق الطائف مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز أو تفضيل ؛ وأخذ في عين الاعتبار الخصوصية اللبنانية كما ورد في «المبادئ العامة والإصلاحات» للوثيقة في المادة 2 (الإصلاحات السياسية) الفقرة 5 «إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبيًا بين طوائف كل من الفئتين ونسبيًا بين المناطق».

وأشار المفكر الوطني سمير فرنجية الى الصعوبات التي اعترضت تطبيق بعض مندرجات اتفاق الطائف لان بعض القادة اللبنانيين لم يُدركوا " أبعاد اتفاق الطائف واهميته الإستثنائية . فقد جمع هذا الإتفاق بين مفهومَي المواطنة والتعدد الطائفي فأرسى بذلك قواعد نمط شديد من الديموقراطية أكثر ملاءمة لمجتمع شديد التنوع كالمجتمع اللبناني. والواقع أن اقتراحات المخارج من الحرب كانت، حتى ذلك الوقت ، تتراوح بين حدين: الفصل بين الطوائف بما قد يصل الى تقسيم البلد، أو إلغاء "الطائفية السياسية" بحيث ينحصر التعبير عن الانتماء الطائفي داخل الدائرة الخاصة ولا يتعداها. والواقع ان الاتفاق دفع بالطوائف الى مجال " الوجود معًا " L’être-ensemble ، بينما قَصَر مجال "العمل معًا " L’agir -ensemble على المواطنين واشكال التضامن المرتبطة بالدولة (احزاب سياسية، نقابات، جمعيات اهلية ... ". ( انظر سمير فرنجية، رحلة الى اقاصي العنف، مرجع سابق ، صفحة 171)

وقد ادرك سمير فرنجية قبل غيره من المفكرين السياسيين اللبنانيين ابعاد الرؤية السياسية الإستشرافية للرئيس رفيق الحريري التي تجسدت في اتفاق الطائف الذي اصبح نموذجًا لفض النزاعات للحروب الأهلية في الدولة الواحدة وفي هذا الصدد قال سمير فرنجية :"لن تخرج الدول التي تشهد صراعا في المنطقة من ازماتها الا بـ"طائف" شبيه بالاتفاق الذي وقع عليه اللبنانيون عام 1990. من انجازات رفيق الحريري أنه ساهم في وضع اتفاق الطائف الذي اوقف الحرب الدامية، وأنه فهم تركيبة لبنان وساهم في وضع اسس العيش المشترك فيه، فلا بلد في العالم تشارك طوائفه في ادارته مثل لبنان. لماذا اعاد الحريري اعمار وسط المدينة اولاً؟ اعطى الحريري اهمية قصوى لتوحيد بيروت، الغى خطوط التماس وأنشأ مساحة مشتركة هي وسط بيروت و جعل منها واحة يتلاقى فيها اللبنانيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم." (حديث للموقع الرسمي لـ "تيار المستقبل" ١٣ شباط ٢٠١٥).

ولذلك كان التلاقي الفكري الوطني والانساني بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري والمفكر الوطني سمير فرنجية امرًا حتميًا لأن القاسم المشترك بينهما كان الدفاع عن المصلحة الوطنية اللبنانية العليا و هوية لبنان العربية و الحفاظ على لبنان الرسالة والعيش الواحد. وهذا التلاقي لم يكن غريبًا ومستهجنًا بين المفكر الوطني سمير فرنجية الذي يمثل الإعتدال المسيحي والمدافع الصلب عن سيادة لبنان والعيش المشترك والرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي اعطى حسب قول سمير فرنجية "صورة حضارية وحديثة وتواصلية عن الاسلام. كنت تشاهد رفيق الحريري في الفاتيكان كما في مكة وحيثما حل كان يجيد التعامل مع الاطراف كافة". وساهم ايضًا سمير فرنجية في فتح قنوات الإتصال والتواصل بين البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير والرئيس الشهيد رفيق الحريري و في بناء علاقة مميزة بينهما و المبنية على الود والاحترام .

واخيرًا، كان سمير فرنجية طوال مسيرته السياسية المثل والمثال للمفكر الوطني والمناضل السياسي الذي رفض التقوقع الطائفي والتحجر الفكري وكانت رؤيته السياسية والإنسانية تُبحر في عوالم الإنفتاح على الآخر واحترام شخصيته والساعية دائمًا الى نبذ التعصب الديني من دون التخلي عن ايمانه المسيحي وهذا ما اشار اليه الرقيم البطريركي الذي تلاه المطران يوسف بشارة بإسم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في صلاة الجنازة التي أقيمت لراحة نفس سمير فرنجية في 13 نيسان 2017: " أحب (سمير فرنجية) كنيسته المارونية وكان قريبا للغاية من سلفنا صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ورجل الثقة عنده في الفكر الوطني، وهو يشاطركم الأسى والصلاة فشارك في أعمال المجمع البطريركي الماروني وفي صياغة نصه الخاص بالكنيسة المارونية والسياسة. وشارك في مشروع مختصر تاريخ الكنيسة المارونية فكان خير معاون ومشير للأمين العام لهذا المجمع ورئيس لجنة المتابعة المطران يوسف بشارة".

- توفي المفكرالوطني سمير حميد فرنجية في الحادي عشر من نيسان 2017 .

*مدير سابق لكلية الاعلام في الجامعة اللبنانية