زياد سامي عيتاني*
قلتُ والناسُ يرقبونَ هلالاً يُشبه الصَّبَّ مَنْ نحافةِ جِسْمِهْ
مَنْ يَكُنْ صائماً، فذا رمضانُ خَطَّ بالنُور للورى أول اسمِه
في التاسع والعشرين من شعبان، يترقب المسلمون بشوق ولهفة السماء الرحبة الفسيحة، علّهم يلمحون تولد هلال شهر رمضان المبارك، فيتحقق أول شهر الصيام ويحق الصوم، والليلة التي يترقب فيها هلال رمضان تُسمى ليلة الرؤية.
وما ان يشاهد المسلمون تولد هلال رمضان المبارك، حتى يبادروا بالدعاء إلى ربهم عز وجل، إسوة بنبيهم قائلين، "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، اللهم إنا نسألك خير ما في هذا الشهر وخير ما بعده"...
**
•ترقب الهلال:
إن ثبوت شهر رمضان المبارك بالوجه الشرعي يقتضي إلتماس ولادة هلاله (الذي يعني أول ليلة والثانية والثالثة، قبل أن يتحول إلى قمر بعد ذلك حتى آخر الشهر)، وفقاً لتقويم الأشهر القمرية، وذلك عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
لذلك، جردت العادة منذ العصور الإسلامية الأولى على خروج المسلمين في آخر شهر شعبان لرؤية هلال رمضان، حيث أن رؤية الأهلة إعتبرها الفقهاء من فروض الكفاية، لما يترتب عليها من الأحكام الفقيهة والشرعية، وكان الرسولۖ لا يأمر بصوم رمضان إلا بعد رؤية هلاله على التحقيق، أو بشهادة الواحد العدل.
**
•يوم الشك:
ومثلما هو معروف فإن الثلاثين من شعبان هو يوم شك، فإما أن يكون مكملاً له، أو يكون غرة رمضان، الأمر الذي دفع إبن الوردي إلى رسم هذا الموقف شعراً بقوله:
قلتُ هِلالُ الصيام ليس يُرى
فلا تصُوموا، وارْضَوْا بقولِ ثِقهْ
فغالطوني حقَّقوا فرَأوا وكل هذا من قوة الحَدَقَهْ
وعلى سبيل المداعبة نشير إلى هذه الواقعة الطريفة عن هلال رمضان، إذ أنه في ليلة ٢٩شعبان صعد الناس لرؤية هلال رمضان دون أن يروه، فلما همّوا بالإنصراف، شاهده صبي صغير وأرشدهم إليه، فقال له أحدهم: "بشّر أمك بالجوع المضحني"...
**
•الرؤية في بيروت من الأماكن المرتفعة:
وكانت رؤية هلال رمضان تتم قديماً في ظاهر بيروت، أي خارج سورها، وتحديداً من المناطق العالية والمرتفعة كمحلة رأس بيروت والأشرفية ورمل الزيدانية وشوران. فيتوجه الناس من أصحاب الإختصاص الذين يفقهون في عملية الإحتساب وفقاً للقواعد الشرعية والفلكية إلى تلك المناطق لتحري ولادة الهلال، فإن شاهده أحدهم يتوجه إلى المحكمة الشرعية للإدلاء شهادة الرؤية أمام قاضي بيروت الشرعي، الذي بدوره وبعد التأكد من صحة الشهادة، يسطر محضراً شرعياً بذلك، ويرسله إلى والي المدينة إعلاماً وإيذاناً ببدء شهر الصوم.فيأمر الوالي بإطلاق المدفعية التي كانت تنصب على تلة "القشلة" (السرايا الحكومي حالياً) ٢١ طلقة إحتفالاً بالضيف العزيز الذي يحمل تباشير الخير وجليل الرحمات، ولإبلاغ من ينتظر تنسم أريجه بحلوله بعد إثبات رؤية هلاله، كما كانت ترفع البيارق على مآذن المساجد وتضاء مصباحها.
*^
•اللقاء العلمائي في دار الفتوى:
أما في العصر الحديث، وبعد أن ساهمت التكنولوجيا المتطوّرة والحديثة في عملية تحري وإثبات ولادة هلال شهر رمضان وفقاً لحسابات فلكية بواسطة الأقمار الاصطناعية المنتشرة في الفضاء الكوني، أو بواسطة المناظير المتطورة، وبالتالي تبادل المعلومات بين مختلف المرجعيات الدينية في سائر بلاد المسلمين بواسطة شبكات الإتصالات الحديثة، فإنه إستعيد عن الطرق والأساليب التقليدية التي كانت سائدة لترقب الهلال، بأن يجتمع سماحة المفتي في التاسع والعشرين من شعبان في بهو دار الفتوى يحيط به مفتتي المناطق ورؤساء المحاكم الشرعية والقضاة الشرعيين والعلماء الأجلاء، ويبقى على إتصال مع المراجع الإسلامية، لا سيما الأزهر الشريف في مصر المحروسة وهيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين، إستبياناً لثبوت رؤية الهلال من عدمه، فيصدر عنه بيان رسمي بتحديد موعد الصيام.
**
•إحتفالات الرؤية مصرية النشأة:
لا بد من الإشارة إلى أن مصر الكنانة كانت السباقة في تنظيم إحتفالات الرؤية، حيث كانت الإحتفالات في مصر برؤية هلال رمضان تبدأ في يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان وكانت الإحتفالات كبيرة وعظيمة على مدي التاريخ الإسلامي في مصر يحضرها وجهاء الناس وكبار رجال الدولة في العاصمة والمدن الكبري .
ويؤكد المؤرخ ابراهيم عناني (عضو اتحاد المؤرخين العرب)، أنه في عام ١٥٥هـ خرج أول قاض لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر، لنظر الهلال، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته، حيث كانت تعد لهم "دكة" علي سفح جبل "المقطم" عرفت بـ "دكة القضاة"، يخرج إليها لإستطلاع الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بني قائدهم بدر الجمالي مسجداً له علي سفح "المقطم" إتخذت مئذنته مرصداً لرؤية هلال رمضان، كما سن الفاطميون أيضا ما يعرف "بموكب أول رمضان" أو "موكب رؤية الهلال".
وهذه العادة الحميدة إستمرت في العصر المملوكي، فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف.
وتم في هذا العصر نقل مكان الرؤية إلي منارة مدرسة المنصور قلاوون "المدرسة المنصورية" بين القصرين لوقوعها أمام "المحكمة الصالحية"، أي "مدرسة الصالح نجم الدين" بالصاغة، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن والمساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتي يصل إلي داره, ثم تتفرق الطوائف إلي أحيائها معلنة الصيام.
أما في العصر العثماني، فعاد موضع إستطلاع الهلال مرة أخرى إلي سفح "المقطم" فكان يجتمع القضاة الأربعة وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة "المنصورية" في بين القصرين, ثم يركبون جميعاً يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية إلي موضع مرتفع بجبل "المقطم" حيث يترقبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلي المدرسة "المنصورية"، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان ويعود إلي بيته في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة.
وإستمر الأمر على ذلك حتي أمر الخديو عباس حلمي الثاني بنقل مكان إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق.
ومع إنشاء دار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، أسندت إليها مهمة إستطلاع هلال رمضان والاحتفال به.إذ تقوم الدار بهذه المهمة كل عام بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، وتعلن الدار نتيجة الإستطلاع في إحتفال جميل يحضره الإمام الاكبر والمفتون السابقون ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة والوزراء وسفراء الدول الإسلامية ورجال القضاء وغيرهم من رجال الدولة ويكونون جميعا في ضيافة مفتي الديار المصرية.
يذكر أن الإحتفال كان يتم في سرادق بجوار دار القضاء العالي عندما كان مقر دار الإفتاء فيها، ثم إستقلت الدار بمبناها الحالي بالدراسة وإنتقل الإحتفال لقاعة المؤتمرات بالدور الأرضي بمبني الدار،إلي إن ضاقت بالحضور فانتقلت إلي قاعة المؤتمرات الكبري للأزهر الشريف بمدينة نصر بالقاهرة.
**
هكذا كان يتم ترقب ورؤية هلال شهر رمضان المبارك في آخر شعبان من كل عام، فيمتزج الجانب الشرعي مع ما هو ذات طابع إحتفالي، فيعز الناس على إستحضارِ النَّوايا لاستقبالهِ استقبالَ الغائبِ المنتَظر، والحبيبِ العائدِ من سفر...
-يتبع: الإحتفال بقدومه.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.