زياد سامي عيتاني**
التسحير أخذ أشكالاً ووسائل مختلفة، تبعاً للتطور والتقدم الزمني. ولكن أولى هذه الأشكال والوسائل تمثلت بالأذان والفوانيس من على مآذن ومنارات المساجد والجوامع الشريفة. ومن ثم إعتمدت الطلقات المدفعية المدوية في سماء المدن العربية والإسلامية لإيقاظ الصائمين.
**
•التسحير في مكة:
وبدايات التسحير تعود إلى عهد النبيۖ، حيث كان الصائمون يعرفون جواز الأكل والشرب بآذان بلال، ويعرفون الإمساك عنه بآذان إبن أم مكتوم.
وفي الحديث الشريف: "إن بلالاً كان ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"... وبذلك يُعتبر مؤذن الرسولۖ الأكرم الصحابي بلال بن رباح أول من نادى للسحور.
ويُذكر في هذا المجال أن الرحالة إبن جُبير قد وصف التسحير في مكة المكرمة عند زيارته لها في شهر رمضان المعظم للعام 578 هـ إذ كتب:
... "إن التسحير خلال شهر رمضان كان يتم من خلال المئذنة التي في الركن الشرقي للمسجد الحرام، وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم المؤذن الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً وذاكراً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه".
أضاف: ... "كانت تُنصب في أعلى المئذنة خشبة طويلة يُرفع عليها قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يوقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبين خطا الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالآذان"...
**
•والي مصر تولى التسحير بنفسه:
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية من أجل التسحير.
فيذكر المؤرخون أن "المسحراتي" ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق" أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحر، وكان ذلك عام 238 هجرية، حيث كان يطوف على قدميه سيراً من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط منادياُ للناس: " عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة".
**
•التسحير بالدق على الباب:
وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجل للقيان بمهمة المسحراتي كان ينادي: " يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب البيوت بعصاً كان يحملها في يده.
**
•إبتكار الطبلة "البازة":
وقد تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر، حيث ابتكروا الطبلة ليحملها "المسحراتي" ليدق عليها بدلاً من إستخدام العصا. هذه الطبلة كانت تسمى "بازة" وهي صغيرة الحجم يدق عليها "المسحراتي" دقات منتظمة، وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، ثم تطور الأمر بأن صارت تجول ليلاً فرقة يحمل أفرادها "الطبل البلدي" و"صاجات" يتقدمها المسحراتي، ويقومون بالتسحير من خلال الإنشاد، حيث شارك الشعراء في تأليف القصائد التي كان ينشدها المسحراتي كل ليلة.
**
•إبن نقطة مسحر الخليفة العباسي:
أما في العصر العباسي في بغداد كان "ابن نقطة" شيخ طائفة المسحرين وأشهر من عَمِلَ بالتسحير، حيث كان موكلاً إليه إيقاظ الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فقد كان ابن نقطة يتغنى بشعر يسمى "القوما" مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أُطلق عليه اسم القوما لأنه كان ينادي ويقول: "يا نياما قوما... قوما للسحور قوما"، وقد أُعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته.
وعندما مات أبو نقطة خلفه ولده الصغير وكان حاذقاً أيضاً لنظم "القوما"، فأراد أن يُعلم الخليفة بموت أبيه ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك، فانتظر حتى جاء رمضان ووقف في أول ليلة منه مع أتباع والده قرب قصر الخليفة وغنى القوما بصوت رقيق رخيم فاهتز له الخليفة وانتشى، وحين همّ بالإنصراف انطلق ابن أبي نقطة يُنشد: (يا سيد السادات لك في الكرم عادات، أنا ابن أبي نقطة، تعيش أنت أبي قد مات). فأُعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحُسن بيانه مع إيجازه، فأحضره وخلع عليه ورتب له من الأجر ضعف ما كان يأخذه والده.
**
•آلات موسيقية مختلفة للتسحير:
بعد ذلك، أخذت شخصية "المسحراتي" بالتطور، وأُدخلت الآلات الموسيقية في أساليب التسحير، لحث الناس على الصيام والقيام، كما إعتمدت الأناشيد، والمدائح، والأدعية في نداءات التسحير، لإطفاء جرعة روحانية عليها، بالإضافة إلى القصص المرتبطة بروح شهر رمضان المبارك.
وقد تنوعت الأساليب التي إستخدمها "المسحرون" على مر الزمن. حيث إختلفت بين دولة وأخرى. فمنها من إستخدمت "البوق"، ومنها من إستخدمت "النفير"، كذلك فإن بعض البلدان إستخدم فيها "المسحراتي" الطبل أو الطبلة كوسيلة للتسحير، لذلك سُميّ "بالطبال" أو "أبو طبلية"، وبعضها الآخر إستخدم "الدف"،
و"الطنابير" و"الصفافير" و"القيثارة" و"العيدان"، و"الصفافير" و"الطار"
**
•النساء يسحرن أيضاً:
ومن النوادر الطريفة في سياق الحديث "المسحراتي"، أن التسحير لم يقتصر على الرجال فقط، إذ تطوعت بعض النساء لتسحير الصائمين. وقد أنشد الشيخ زين الدين بن الوردي في إحدى المسحرات في ليالي رمضان قائلا":
عبجتُ في رمضان من مُسحرةٍ بديعةِ الحسن إلا انها ابتدعتْ
قامتْ تسحرُنا ليلاً فقلتُ لها: كيف السحورُ وهَذي الشمسُ قد طلعَتْ
**
•طرائف التسحير:
تجدر الإشارة إلى أن بعض "المسحراتيين" كانوا يبتدعون أسلوباً خاصاً بهم، حيث كانوا يرددون أغاني تحمل معها الطرافة والفكاهة للتودد من الناس، للفت الأنظار والتميز عن غيرهم من المسحراتيين. فكانوا ينظموا قصصاً فكاهية مغناة، تدور حول مواقف ساخرة تعبر عن إدارك لمشاكل إجتماعية معينة.
فينقل عن أحد "المسحراتية" في مصر أغنية حوارية كان يرددها في ليالي رمضان ويقول فيها:
"يا ست هدية يا وش الهنا
بدعيلك تتهني ويسعدك ربنا
ليه بس دايماً كل ما آجي هنا
ما سمعش منك غير كتر الكلام
واقف على باب بيتكم شايف
صينية محشية بالجوز والحمام
ومن بعيد شامم ريحة ملوخية
قولي على عقلي يا واد السلام"...
**
"أصحي يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم".. نداء يتجدد كل عام مع حلول شهر رمضان ، ويجوب به المسحراتي شوارع والأحياء من خلال قرع الطبول لإيقاظ الناس لموعد تناول طعام السحور...
-يتبع: سيد مكاوي أشهر "مسحراتي".
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.