أخبار لبنان

عندما ينسف "الجنرال"جمهوريته.. بالحوار!

تم النشر في 3 أيار 2020 | 00:00


المصدر: حسين أيوب

لم يتكيّف ميشال عون مع الجمهورية الثانية. المفارقة أن رئيس جمهورية لبنان هو اليوم المعارض الأول للنظام السياسي. معظم الخطوات الرئاسية، سواء أكان هو الآمر، أو أن هناك من نصحه بها، تشي بأنه لم ولن يتكيف مع الصيغة السياسية التي تحكم لبنان منذ الطائف حتى يومنا هذا.

جاءت دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى اللقاء الوطني في بعبدا، يوم الأربعاء المقبل، من خارج السياق السياسي الوطني أو الدستوري. “المكتوب” يُقْرَأ من عنوانه: عرض البرنامج الاصلاحي المالي للحكومة. شملت الدعوات تحديداً قادة كتل نيابية (بمن فيهم نبيه بري)، بالإضافة إلى رئيس الحكومة حسان دياب وزيري المالية والإقتصاد وعدد من الخبراء الذين ساهموا بصياغة خطة التصحيح المالي.

ثمة ملاحظات سريعة في الشكل والمضمون يمكن سردها على الشكل الآتي:

أولاً، بعد أن أقرت الحكومة اللبنانية، الخطة المالية، ووقع رئيسها ووزير المالية، طلب برنامج صندوق النقد الدولي، ماذا ستقدّم أو تؤخر، ملاحظات المدعوين إلى “اللقاء الوطني”، طالما أن الخطة قد أقرت وصارت رسمية؟

ثانياً، هناك مكونات سياسية ممثلة في الحكومة مثل حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وتيار المردة وحزب الطاشناق والحزب الديموقراطي اللبناني واللقاء السني التشاوري، وهذه كلها ناقشت الخطة مركزياً وقدمت ملاحظاتها وتم الأخذ بمعظمها، قبل أن تصبح ورقة شركة “لازار” الخطة الرسمية للحكومة اللبنانية بالإجماع، ولو بتحفظ ثلاثة وزراء على بعض مضمون الخطة. هذه القوى حتما ستكون معنية بتلبية الدعوة إلى القصر الجمهوري (وبعضهم سيرسل ممثلين عنه كنبيه بري وسليمان فرنجية)، ولكنها، عملياً، قالت ما تريد قوله عبر ممثليها وصارت ملزمة سياسياً بالخطة، بعد إقرارها.

ثالثاً، هناك مكونات سياسية غير ممثلة في الحكومة مثل تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري، الحزب التقدمي الإشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، حزب الكتائب بقيادة سامي الجميل، تكتل الوسط المستقل برئاسة نجيب ميقاتي. هذه القوى كلها مصنفة، اليوم، في خانة المعارضة السياسية للحكومة الحالية. إذا كان المطلوب منها أن تضع بصمتها على الخطة التي أقرتها الحكومة، فمن حقها أن تعتبر الدعوة أشبه ما تكون بـ”أمر إستدعاء سياسي”، وإذا كان الهدف هو مناقشة الخطة وتعديلها والدعوة حصرية بالكتل النيابية، فإن المكان الدستوري المناسب هو مجلس النواب. إذا كانت هناك بنود مالية أو ضرائبية أو غيرها يمكن أن تحيلها الحكومة كمشاريع قوانين إلى مجلس النواب، يصبح المكان الأكثر فائدة لنقاشها وتعديلها وإقرارها هو المجلس النيابي بلجانه وهيئته العامة.

رابعاً، كان الأجدر برئيس الجمهورية أن يدعو إلى طاولة حوار وطني موسعة، بجدول أعمال سياسي وإقتصادي ومالي وإجتماعي مفتوح، تعقد برئاسته في القصر الجمهوري، ويمهد لها بمشاورات بعيدة عن الأضواء مع جميع الكتل حتى يضمن حضورها كلها أو معظمها، أو بالحد الأدنى، التشاور مع رئاسة مجلس النواب وبعض الكتل الكبيرة، حتى يضمن نجاح مبادرته، لكن ذلك لم يحصل أبداً.. وبالتالي، لم تكن النتيجة السلبية مفاجئة، برغم إستغراب بعض من قرروا تلبية الدعوة حيثيات “اللقاء”، شكلاً ومضموناً.

قد يصح ما أقدم عليه رئيس الجمهورية لو أننا نعيش في كنف سلطة مركزية مطلقة تحظى بمظلة دولية وإقليمية لا يجرؤ أحد على التفلت من خياراتها. لكن هيهات أن نكون في 1 بالمئة من هكذا سلطة مُدعاة، إلا إذا كان أحدهم قد أوهم سيد القصر بوجوب فتح السجون لزج كل القادة المتورطين في الفساد والهدر

خامساً، إذا كانت وظيفة خطة التصحيح المالي التي أقرتها حكومة حسان دياب، تقديم أوراق إعتماد لبنان إلى صندوق النقد الدولي، ألم يكن أجدر برئيس الجمهورية أن يدعو قادة الحوار إلى مناقشة المرحلة الإنتقالية الممتدة من الآن وحتى لحظة قبول صندوق النقد بضخ سيولة في شرايين الإقتصاد اللبناني، وهي مرحلة قد تمتد لنحو 18 شهراً، وبالتالي، على الجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم خلالها، لا سيما بالسعي لإيجاد مصادر مالية من الداخل اللبناني. يطرح ذلك عليهم أسئلة: ما هي الإجراءات التي يمكن البدء فيها فورا لتشجيع القطاعات الإنتاجية (زراعات محددة مثل القنب الهندي، صناعات غذائية محددة، أسمدة، الأدوية، الأزهار، الألبان والأجبان، المياه المعدنية إلخ)، الأمر الذي يمكن أن يخفف فاتورة الإستيراد ويعزز قطاع التصدير؟ ماذا يمنع لبنان أن ينفتح على سوريا بدل إستمرار سياسة إدارة الظهر لكل من سوريا والعراق والأردن؟ ما هي القطاعات التي يمكن للبنان أن يستفيد منها بإنفتاحه على عمقه العربي؟ هل يمكن إسترداد الأموال المنهوبة أو بعضها؟ هل يمكن إيجاد طريقة تلزم أصحاب المصارف بإستعادة الأموال التي حولوها إلى مصارف في الخارج، بعد السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019؟ هل يمكن أن تلزم الطبقة السياسية نفسها بقرار كبير يتمثل في إستعادة الأملاك البحرية والمشاعات أو إلزام حيتان المال بدفع ما تستحقه الدولة عليهم؟ هل يمكن إنشاء صندوق إستثماري لبناني، من خلال رأسمال تأسيسي يقدمه كبار الأغنياء في لبنان والخارج، ويكون عبارة عن مساهمات؟ هل نتخذ قراراً بحل قضية الكهرباء التي تسببت وحدها بعجز يقدر بنحو أربعين مليار دولار، قبل أن يلزمنا صندوق النقد بـ”وصفاته”؟ وحتماً هناك الكثير من العناوين الإقتصادية والمالية التي يمكن أن يطرحها أقطاب الحوار.

سادساً، هذه اللحظة اللبنانية التاريخية، ليست لحظة تبادل إتهامات ولا تهرب من تحمل المسؤوليات. إنها لحظة الشراكة الوطنية في مواجهة عدوين: الأول، كورونا (ولماذا لا نقتدي بإسرائيل التي قرر قادتها تشكيل حكومة إتحاد وطني في مواجهة هذه الجائحة ـ العدو)؛ العدو الثاني هو الفقر والجوع الذي لن يستثني منطقة أو طائفة لبنانية إذا إستمر التدهور الإقتصادي والمالي، وحتماً لن يكون بمقدور أي زعيم طائفي لبناني أن يطعم كل الجائعين من أبناء طائفته، فلماذا لا تتوحد كل الجهود في هذه اللحظة التاريخية لمواجهة الفقر؟

سابعاً، قد يصح ما أقدم عليه رئيس الجمهورية لو أننا نعيش في كنف سلطة مركزية مطلقة تحظى بمظلة دولية وإقليمية لا يجرؤ أحد على التفلت من خياراتها. لكن هيهات أن نكون في 1 بالمئة من هكذا سلطة مُدعاة، إلا إذا كان أحدهم قد أوهم سيد القصر بوجوب فتح السجون لزج كل القادة المتورطين في الفساد والهدر فيها، من كبيرهم إلى صغيرهم، طبعاً بإستثناء واحد أوحد، يدعو اللبنانيين للإقتداء به بوصفه المثل والمثال!

ثامناً، في غياب السلطة المركزية، ما هي الخيارات المتاحة أمام اللبنانيين: إما الإستسلام للإنهيار الكبير، ونحن على أعتابه، أو عدم البقاء مكتوفي الأيدي، وبالتالي السعي إلى “فرملة” الإنهيار أو الحد من خسائره، وهذا يتطلب أوسع مروحة من التوافق الوطني، وعندها، تصبح الدعوة إلى لقاء القصر الجمهوري، بشكلها ومضمونها، غير ذي قيمة وفائدة.

تاسعاً، ثمة عقل ثأري وإنتقامي يتحكم بمفاصل عدد من دوائر القرار السياسي. هذا العقل لا يمت بصلة إلى تاريخ لبنان وتوازناته ومعطياته، وأقله العهود الرئاسية الأخيرة. لقد إنتهى لبنان بشير الجميل ويصح القول أن لبنان ميشال عون بنسخته الثمانينية قد إنتهى أيضاً. لبنان الحالي أيضاً قد إنتهى بنسخات الياس هراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. ثمة لبنان جديد يجب أن يولد، وفي إنتظار اللحظة الأميركية الإيرانية التي لا بد أن تأتي، لذا وبدل أن يكون القصر الجمهوري، ساحة للتلاقي الوطني، ولو الكاذب، يراد له أن يكون مركزا لصياغات أمنية وقضائية من نوع آخر.

عاشراً، لا أحد يستطيع الدفاع عن هذه الطبقة السياسية كلها من دون إستثناء، لكن من يقدّم المصلحة الوطنية على ما عداها، يستطيع أن يتصرف بطريقة مختلفة، إلا إذا كان هناك من يعتقد أن بمقدوره أن يضع نبيه بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري وسليمان فرنجية ورياض سلامة ونجيب ميقاتي في السجون، ويسلم لبنان لأيد أمينة نظيفة يبدأ إسم صاحبها بحرف الـ….!

حتماً، سينعقد اللقاء الوطني يوم الأربعاء، بغياب تيار المستقبل فقط، على الأرجح، لكن بمعزل عن التمثيل وجدول الأعمال، حرام أن ينتهي هذا العهد بمأساوية تختزل أسوأ ما جاء في كل عهود لبنان من الإستقلال حتى الآن.. إلا أذا كان “الجنرال” يتصرف بوصفه الخصم الأول للجمهورية، ولا يريد أن يبقي شيئاً من أساساتها. عندها يستحق أن نضرب له التحية. ما هكذا تورد الإبل، يا سليم!