لم يشهد لبنان في تاريخه الحديث ارتفاعاً جنونياً في أسعار المواد الإستهلاكية، كما هو الحال اليوم، حين قارب المعدّل العام للارتفاع نسبة 100 في المئة. وإذا كانت الوزارات المعنية عاجزة عن ضبط الأسواق التجارية، لضعف الإمكانات وغياب التشريعات اللازمة لمواجهة التجار وكبح جشعهم، فإن الدولة برمتها قاصرة عن ضبط فوضى تسعير الدولار وارتفاعه المستمر. وهو المسبّب الرئيسي لارتفاع أسعار المواد الإستهلاكية.
يطال الغلاء كافة المنتجات والمواد الاستهلاكية من دون استثناء، المستوردة منها كما المُنتجة محلياً. ولم تَسلم المنتجات الزراعية المستوردة والوطنية. فالغلاء استفحل منذ شهرين وحتى اليوم، متواطئاً مع ارتفاع الدولار على تقليص القدرة الشرائية للمواطن اللبناني إلى حدود النصف، على الرغم من توجّه المستهلكين غالباً إلى حصر مشترياتهم بالمواد الأساسية فقط، والاستعاضة عن منتجات كثيرة بأخرى أقل جودة وأبخس ثمناً.
المواد الأساسية
تتراوح نسب ارتفاع أسعار المواد الإستهلاكية بين 30 و150 في المئة، قلّة منها فقط قلّ ارتفاع أسعارها عن 30 في المئة، وإذا أخذنا بعض العيّنات من مواد غذائية أساسية، تشكّل حاجة يومية لدى كافة العائلات، فنلحظ ارتفاعاً يقارب بمعدّله العام الـ100 في المئة.
وتبلغ أسعار اللحوم مستويات مرتفعة تتفاوت بين منطقة وأخرى، فتتراوح أسعار لحم البقر بين 27 ألف ليرة و40 ألف ليرة للكيلو الواحد. وسعر كيلو لحم الدجاج يفوق 10 آلاف ليرة، وكرتونة البيض تفوق 15 ألف ليرة. أما عبوة الزيت (زنة 4 ليتر) فلا يقل سعر أي من أنواعها عن 28 ألف ليرة. كما تسجّل أسعار الحبوب ارتفاعاً يفوق 60 في المئة، ويتراوح سعر كيلو الرز بين 3000 و5500 ليرة للأنواع متوسطة الجودة، ذات الإقبال المرتفع. أما كيلو الحمص فيبلغ 8000 ليرة، وسعر كيلو الفاصوليا يتراوح بين 7000 و12000 ليرة بحسب النوعية.
تتراوح أسعار حليب الأطفال غير الرُضع (زنة 2500 غرام) بين 35 ألف و50 ألف ليرة. ويصل معدّل فارق سعر العبوة بين الصيدلية والسوبر ماركت إلى نحو 10000 ليرة للنوع نفسه، ويبلغ متوسط سعر المعكرونة (500 غرام) 3500 ليرة، ويتراوح سعر كيلو البن بين 25 ألف و30 ألف ليرة. أما السواد الأعظم من أصناف الـ"نيسكافيه"، وهي المنتجات الأكثر توزيعاً وطلباً في لبنان، فقد تضاعفت أسعارها، بعد قرار شركة نسلة بتسعير بضاعتها وفقاً لسعر صرف الدولار عند 4000 ليرة. ولا يقتصر ارتفاع الأسعار بنسبة 100 في المئة على منتجات النيسكافيه. فقد شمل أيضاً كافة أصناف الشوكولا المنتجة من نسلة، فبات سعر "الكيت كات" على سبيل المثال 2000 ليرة بدلاً من 1000 ليرة.
أما الألبان والأجبان فحدّث ولا حرج. وتتراوح نسبة ارتفاع أسعارها بين 60 في المئة و100 في المئة، ومنها جبنة Picon التي تُعد من الأكثر إقبالاً لدى المستهلكين، خصوصاً الأطفال. فقد تضاعف سعرها (360 غرام) من نحو 4000 ليرة إلى 8000 ليرة.
تهريب الحامض
وللمواد الزراعية قصة أخرى. فالارتفاعات طالت كافة أصناف الفاكهة والخضار المستوردة منها والمحلية. قد تضاعفت أسعار الكثير منها قبل أن تنخفض مؤخراً بشكل طفيف، ووصل سعر البندورة إلى 4500 ليرة للكيلو، والخيار إلى 4000 ليرة للكيلو، والبصل إلى 5000 ليرة، والثوم إلى 10000 ليرة، في حين بلغ سعر كيلو التفاح 5500 ليرة، والليمون 2000 ليرة، والموز 2500 ليرة. أما الحامض اللبناني فوصل سعر الكيلو منه إلى 6000 ليرة.
ويفسّر رئيس تجمّع مزارعي وفلاحي البقاع ابراهيم ترشيشي، في حديثه إلى "المدن"، ارتفاع اسعار المنتجات الزراعية بعدة عوامل، أبرزها ارتفاع سعر صرف الدولار، وصعوبة إجراء التحاويل المصرفية لشراء السماد والمستلزمات الزراعية والمبيدات وغيرها. أضف إلى سبب رئيسي آخر هو تصدير المنتجات الزراعية، لاسيما منها الحامض إلى سوريا وباقي الدول العربية، مع بدء أزمة كورونا وتوقف الدول العربية عن استيراد الحامض من تركيا ومصر. ما رفع الطلب على الحامض اللبناني الذي سلك طريق التهريب إلى سوريا ومنها إلى الأردن والعراق ودول الخليج، على حساب نقص المنتج في السوق اللبناني، وارتفاع سعره بشكل جنوني فاق نسبة 250 في المئة.
نقص التشريعات
يلقي المواطن مسؤولية ضبط فوضى الأسعار على وزارة الاقتصاد والتجارة. فهي المعني الأول بحماية المستهلك، ووفق مصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة، فإن الوزارة تعمل جاهدة على مراقبة الأسواق، على الرغم من صعوبة الأمر، نظراً لعدم استقرار سعر صرف الدولار. ويوضح أحد المراقبين، في حديثه إلى "المدن"، أن جولات المراقبة تأخذ بالإعتبار نوع المنتج، وما إذا كان مستورداً أو محلي الصنع، وما إذا كان يستلزم مواد أولية مستوردة، ومستوى إيجارات المحال التجارية، إضافة إلى سعر صرف الدولار المُعتمد في الفاتورة، وبعض التفاصيل الأخرى، وصولاً إلى مراقبة هامش الربح.
ولكن حملات الوزارة وجولاتها الرقابية مهما تفعّلت، يبقى من الصعب ضبط الأسعار أو الحد من ارتفاعها، في ظل غياب الرقابة على كامل مسار المنتج. بمعنى آخر، تدور صلاحيات الوزارة في فلك ضبط التجار وحماية المستهلك. لكنها لا تملك صلاحية مراقبة وتحديد هوامش أرباح المستوردين. وهو ما يفسّر الهوّة الكبيرة في الأرباح بين المستورد وتاجر الجملة وتجار التجزئة. غياب صلاحيات الوزارة لضبط هامش أرباح المستورد يفتح الباب على المشروع الذي أعدته وزارة الاقتصاد لتعديل قانون حماية المستهلك وضرورة إقراره.
من هنا تحاول وزارة الاقتصاد مؤخراً التدخل بهوامش الربح لدى المستوردين. وهو ما تؤكده المديرة العامة للوزارة عليا عباس، في حديثها إلى "المدن". فأرباح المستوردين لها أثر مباشر على السعر النهائي للمستهلك "لذلك نقوم بالتدخل بهوامش الربح للمواد المستوردة وإن من خارج صلاحيتنا ونتواجه في كثير من الحالات مع محامين المستوردين، ونحن نعتبر محاضر الضبط التي نحرّرها بحقهم إخبارات قضائية وعلى الأخير التحرك".
أمام نقص التشريع فيما يخص حماية المستهلك ترى نائبة رئيس جمعية حماية المستهلك ندى نعمة، في حديثها إلى "المدن"، أن على المعنيين ومنهم وزارة الاقتصاد التدخل، وإن استثنائياً، لضبط هوامش أرباح المستوردين وتجار الجملة "فمن غير المقبول أن تستمر الأسعار بالارتفاع بهذا الشكل الجنوني. إذ قاربت أن تصل إلى 100 في المئة" وتقول نعمه "أنها لو قامت الدولة أقلّه منذ بداية أزمة كورونا بتأمين الدولار بالسعر الرسمي لبعض السلع الأساسية، كالألبان والأجبان واللحوم والحبوب، لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم".
نقص في المنتجات
لا يوفر التجار والمستوردون حيلة إلا ويعتمدونها لجني مزيد من الأرباح، وآخرها عدم تسليمهم البضائع للأسواق، تزامناً مع إضراب الصرافين، ذلك تحت ذريعة عدم قدرتهم على تحديد سعر الدولار في فواتير التسليم. الأمر الذي يفضح مدى جشعهم واستحكامهم في عملية فوضى الأسعار والغلاء المُستفحل، لاسيما أنهم استوردوا بضائعهم وفق سعر صرف محدد، وعليهم تسليم بضاعتهم وفقاً له، وليس وفق أي سعر آخر.
وقد أدى عدم تسليم التجار البضائع إلى فقدان الكثير من المواد الإستهلاكية من المحال والسوبر ماركت، ما أثار موجة من الذعر بين المواطنين، دفعهم إلى التهافت على البضائع لتموينها خوفاً من فقدان المزيد منها. أما في ما خص تداول ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي خبراً مفاده أن عدداً من السوبر ماركت ستقفل أبوابها مطلع الأسبوع الحالي، فإن مصدراً متابعاً أكد عدم صحة الخبر، ووضعه في خانة الشائعات.
من جانبها تعمد بعض كبرى المتاجر إلى تأجيل ملء الرفوف بالبضائع المتوفرة في مستودعاتها، بشكل أسبوعي، إلى حين فراغ الرفوف منها كلياً، بهدف تغيير الأسعار ورفعها بشكل مستمر. وهو ما يؤكده أكثر من عامل في المتاجر الكبرى.
وقد كشف مدير أحد المتاجر في بيروت، في حديث لـ"المدن"، أن شركة نسلة عمدت إلى سحب كافة منتجاتها من الأسواق، بهدف إعادة توزيعها بتسعيرة جديدة لكافة الأصناف وحُلة جديدة لبعضها. وبذلك تكون شركة نسلة قد أنتجب بضاعتها وفق سعر صرف للدولار يقل عن 4000 ليرة وباعتها بأسعار مضاعفة، وفق سعر صرف 4000 ليرة للدولار، بعيداً عن أي حسيب أو رقيب.
المدن - عزة الحاج حسن