منوعات

رمضان في التراث البيروتي(١٦): بائع العرقسوس "يطرب" الصائمين!

تم النشر في 18 أيار 2020 | 00:00

زياد سامي عيتاني*

شفا وخمير يا عرقسوس ...

إشرب الزبيب وصلي عالحبيب...



كم نطرب لسماع بائع الجلاب والعرق سوس المعروف بآسم "السواس" وهو ينادي على المشروب الرمضاني، مصحوباً صوته الجهوري برنين "الصاجات" النحاسية التي يحركها بأصابعه بحركة ساحرة لا يتقنها غيره، لتحدث إيقاعاً وكأنها صادرة عن آلة موسيقية نحاسية، لكنها بكل بساطة صادرة عن أنامل صاحب تلك المهنة الشعبية التي تزدهر بشهر رمضان المبارك، إذ الذي كان في الماضي يجوب بعربته الخشبية ذات الألوان المزركشة ولباسه الفولكلوري شوراع وأحياء بيروت وحاراتها الشعبية، منادياً على على منتوجاته من المشروبات الرمضانية، لا سيما قبل موعد الإفطار بوقت قليل، متحملاً حرارة الشمس والعطش، ليروي ظمأ الصائمين، فيصبح بطقوسه بطلاً للوحة شعبية فريدة في الشوارع والأزقة...

**



•محلات المشروبات الرمضانية:

في الماضي كانت مهنة صناعة هذا النوع من المشروبات العربية لها أصولها وإتقانها، ولم تكن تباع كما بات رائجاً في أيامنا بزجاجات تجارية نجدها في المحلات، وهي عبارة عن شراب يتم تذويبه بالماء، وهو أقرب ما يكون إلى صبغة "مكثفة" وماء منكهة وسكر، بل كان يباع جاهزاً في محلات متخصصة بإعدادها وتحضيرها على الأصول، وبموادها الأساسية.

وأغلب هذه المحلات كانت متواجدة بالقرب من ساحة "رياض الصلح" بجانب الحي الذي كان يعرف ب "الغلغول"، حيث أن تلك المحلات لم تكن تبيع إلا الجلاب والتمر هندي والعرقسوس والليموناضة، وكانت تضع المشاريب في أواني (خلل) مصفوفة على طاولة الرخام الأبيض، وتسمى "دروقاً"، وهي عبارة عن أوعية كبيرة من النخاس المشغول والمنقوش بإشكال فنية رائعة تحمل رسوماً نباتية وكتابات قرآنية وشعرية، لها غطاء في الأعلى لسكب المشارب، وحنفية في الإسفل من الجهة الخلفية لسكبه في "القناني" للزبائن.

**



•بيع الثلج قطعاً:

كذلك، كان يبيع الزبائن مع المشروب قطعة ثلج يقتطعها من القوالب التي يصفها على الرفوف الخلفية للمحل، ويقدمها للزبون بعد أن يلفها بقطعة من "الخيش" منعاً لذوبانها بسرعة، وذلك حتى يتذوق الصائم، الشراب الرمضاني بارداً ليكسر به عطشه، لأنه في ذلك الحين لم تكن البرادات المنزلية قد عرفت طريقها إلى البيوت بعد.

**

•عائلة بيروتية حملت إسم "السواس":

وبسبب تخصص هذه المحلات ببيع الأشربة العربية، لا سيما منها شراب العرقسوس، الذي إعتاد "البيارتة بتسميه "سوس" للإختصار، فقد أطلق على كل من يشغل هذة المهنة لقب "السواس"، على غرار محلات بيع العطارة في سوق أبو النصر، أطلق عليهم جميعاً "دبوس"، حتى ان عائلة بيروتية كان أغلب أفرادها يعملون في صناعة شراب "السوس" كنِّيت بالسواس إلى أن حلت الإسم رسمياً، تماماً معائلة الكنفاني المتخصصة بصناعة الكنافة وعائلة حلاوي المتخصصة بصناعك الحلاوة الطحينية.

**




•الباعة المتجولين:

بموازة محلات بيع المشروبات العربية، كان في الماضي أيضاً بائع الجلاب والعرقسوس والليموناضة المتجول، الذي يجول في شوارع بيروت أيام الحر والشوب والعطش وخلال شهر رمضان المبارك وهو يجر عربة خشبية متواضعة على ثلاثة دواليب، مطلية بأنوان فاقعة، هي عبارة عن جزئين علوي وسفلي. في الجزء العلوي الذي هو عبارة عن خزانة زجاجية، يضع بداخلها قالب من الثلج والكبايات النحاسية ومرطبان دائري له حنفية يضع في داخله الليموناضة مع قطع كبيرة من الثلج، ما يجعل زجاج المرطبان "عرقاناً"، تستدل منه حنفية لسكب الليموناضة. أما الجزء السلفي فهو أشبه بخزان خشبي، مقسوم إلى قسمين في الأول يضع شراب الجلاب والثاني يضع فيه العرقسوس، ولكل قسم حنفية نحاسية لتعبئة المشاريب الى الزائن.



**

•بائع العرقسوس "الفولكلوري":

بعدما إنقرضت هذه الظاهرة عن المناطق البيروتية، حل مكانها في المناطق الشعبية بائع العرقسوس المتجول سيراً على الأقدام حاملاً على ظهره "الزلعة" منادياً بنفس طريقة البائع الذي كان يجر عربته، مع إضافة بعض الحركات الراقصة "البهلوانية" لشد إنتباه الناس وجذبهم لشراء الشراب الساحر.

فهو يحمل على كتفه إبريق معدني كبير مزين بشمعدان وأضواء وخيوط من الخرز، فضلاً عن الصاجين النحاسيين اللذين يدران صوتاً مميزاً لشد إنتباه المارة، وذلك للإعلان عن شراب عُرف منذ القدم بمذاقه، خصوصاً في شهر رمضان عندما تكون حرارة الشمس شديدة، فيتناوله  الصائمون عند إفطارهم، ليرووا ظمأهم ويكسروا عطشهم.

وأكثر ما يلفت النظر هو ملابسه الفلكلورية وصوته الرنان الذي ينادي الناس والباحثين عن شراب يروي ظمأ الصيام بعد إفطارهم . إذ يتألف الزي من أربع قطع: قميص أبيض محشو باطن كتفيه بمسندين من الإسفنج وفوقه سترة سميكة من غير أكمام منسوجة يدوياً وسروال أسود فضفاض وطربوش أحمر .

ويطلق على الآلة المعدنية الضخمة التي يحملها على أكتافه " صندوق العدة " وهو مؤلف من إبريق معدني كبير مطلي داخله بالنحاس ومزين بشمعدان وأضواء وخيوط من الخرز وفي نهايتها دنانير ذهبية اللون تصدر أصوات الخشخشة مع كل حركة يأتيها البائع .

وحين يكرمه الله بزبون، يقوم برقصته الشهيرة، فيدور بجزعه دورة أو دورتين، ثم يميل كثيرا ناحية اليمين، وهو يحمل في يده اليمنى كوب العرقسوس، يقربه ويبعده، لكي يضمن أن تعلوه «رغوة» ذهبية تتوج الكأس الزجاجي المثلج.

**



•تجسيد الشخصية سينمائياً:

نشير في سياق الحديث عن بائع العرقسوس أن الفنان الكوميدى المصري الجميل عبد الغنى النجدى قد جسد شخصية (عوكل) هو أشهر بائع عرقسوس فى تاريخ السينما المصرية في فيلم "إسماعيل يس فى الجيش" وهو الوحيد الذى تفرد بأداء هذا الدور، حيث كان دوره أنه كان يحمل إبريق ضخم زجاجى للمحافظة على برودة العرقسوس بواسطة حزام جلدي عريض لربط الإبريق حول الوسط ومشدود على الخصر ويمسك بيده صاجات نحاسية ويمشي في الحارة مقدماً اغنية "سلم علي لما قابلني"

**



ولأن بائع المشروبات العربية بات ظاهرة من الظواهر التراثية والفولكلورية الشعبية، فإن أغلب الفنادق الفخمة التي تنشىء خيماً رمضانية في رحابها، باتت تستعين ببائعي الجلاب والعرقسوس لإطفاء أجواء من التراث على السهرات الرمضانية، في محاولة للمحافظة على هذه الظاهرة من جهة، ولتعريف الجيل الجديد والسياح والأجانب على واحدة من عاداتنا التراثية التي تدخل البهجة والسرور إلى نفوس مشاهديها.


*

-يتبع: الحكواتي.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي