أخبار لبنان

مجاعة في لبنان… من جمال باشا الى نصرالله

تم النشر في 6 تموز 2020 | 00:00

جورج، ناجي، داني، بسام، علي، سامر، خالد، توفيق… لبنانيون وسوري وضعوا ‏حدّاً لحياتهم ليتخلّصوا من معيشة أصبحت مسلسل عذاب يومي، صراعاً مع الجوع ‏الزاحف، ودوراناً في حلقة العوز والذلّ والعجز عن تأمين الحدّ الأدنى: حليب ‏الأطفال وخبز العائلة. فقدوا الثقة والأمل في حاضر البلد ومستقبله، وشعروا بأنهم ‏لن يقووا على تحمّل أوجاع الأيام الآتية.‏

انكشف الفقر كما لم يحدث في لبنان إلا أيام المجاعة الكبرى، قبل مئة عام، حين ‏طالت ثلاثة أعوام ونيّف بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى والحصار الغذائي ‏العثماني – الدولي والجراد الذي التهم المحاصيل، فافتتحت في إبانها وبعدها موجة ‏هجرة الى أي مكان ولا مكان. ثلث السكان قضوا ثمناً للتموضع العثماني في ‏الحرب ضد الحلفاء الغربيين الذين أغلقوا الطرق التجارية الدولية لمحاصرة بقايا ‏الإمبراطورية. لم يكن لبنان وحده في تلك المحنة بل غرق فيها المشرق العربي ‏الذي لم تكن دوله ولدت بعد. قبل عامين، في 2018، رُفع الستار في بيروت عن ‏‏“شجرة الذاكرة”. هي شجرة مصنوعة زُرعت في بداية “طريق الشام” على ‏الرصيف المقابل للجامعة اليسوعية، وبين اسمَيّ الشارع والجامعة ارتسم التاريخ ‏مختَزَلاً، وأُريد للشجرة أن تكون نُصباً تذكارياً لمئوية… المجاعة الكبرى. هل كان ‏أصحاب الفكرة رؤيويين، هل أرادوا ألا تمر “مئوية لبنان” من دون استذكار ‏المجاعة، هل دقّوا ناقوس الإنذار بأن التاريخ قد يعيد نفسه. آنذاك، كانت نذر ‏الكارثة ورياحها تتجمّع، ليس في كواليس الدولة والمصارف فحسب، بل خصوصاً ‏في النفوس، وكانت أصوات كثيرة تحذّر، لكن من يجب أن يسمع ويعمل لم يسمع ‏ولم يعمل. وفي 2019، بعد عام فقط، هبّ الإعصار دفعةً واحدة وحطّم كل شيئ ‏دفعةً واحدة: طريقة العيش والمعنويات وبقايا التضامن الاجتماعي، المال ‏والاقتصاد، والحكم والحكومة. ولمفاقمة كل هذه التداعيات حلّ وباء “كورونا”.‏

بعد مئة عام، انتقل لبنان – الذي لم يكن موجوداً – من معاناة الصراع بين الدولة ‏العثمانية والغرب، ليصبح – وقد صار “دولة مستقلّة” – ضحيّة الصراع بين إيران ‏والغرب، تحديداً الولايات المتحدة. كأن كل ما طرأ من تغيير على التاريخ ‏والخرائط لم يمنع تكرار المآسي بالسيناريوات ذاتها. المفارقة أن الحروب العربية ‏‏– الإسرائيلية، بامتداداتها الاقليمية والدولية، لم تنعكس على لبنان بمثل ما يشهده ‏حالياً، لكن إيران وجدت فرصة في اللاحرب العربية – الإسرائيلية لدفع البلد – ‏وحده – الى أتون حربها ضد إسرائيل… من أجل نفوذها ومصالحها، لا من أجل ‏الفلسطينيين أو اللبنانيين أو حتى الشيعة.‏

في الماضي نُسبت المحنة الى “السفّاح” جمال باشا، ممثل “الباب العالي”. كان ‏السكان اقتحموا بلدية بيروت للتحذير من نقص المواد الغذائية، وبُذلت جهود مضنية ‏للحصول (بأسعار فاحشة) على شحنات قمح بالقطار ولا تكفي إلا لفترة وجيزة، ثم ‏فرض “السفّاح” حصاره وبدأت المجاعة مرفقة بكل المصطلحات الراهنة من ‏احتكارات وسوق سوداء ومخابز عاجزة ورفوف خاوية في المخازن. واليوم باتت ‏المحنة اللبنانية تُنسب أكثر فأكثر، حصرياً، الى “حزب الله”، بل الى حسن نصرالله ‏ممثل “الوليّ الفقيه”، “الباب العالي” المستجد. طبعاً، هناك يمكن أن يُشار الى ‏مسؤولين آخرين: حلفاء “حزب الله”، مأسسة الفساد ونهب الأموال العامة، الولايات ‏المتحدة وعقوباتها، وقد انضمّ اليها أخيراً الأوروبيون وعرب الخليج. لكن ‏اللبنانيين، شعباً ومجتمعاً وطوائف، لم يتصوّروا يوماً أن الدائرة ستدور عليهم ثم ‏تُغلق على هذا النحو الخانق، الى حدّ تهديدهم بالمجاعة. أكثر من ثلثَي الشعب لا ‏يسوّغون أن تكون دولتهم في “محور الممانعة” أو أي محور آخر، ولا يجيزون أن ‏يصادر طرفٌ واحدٌ هذه الدولة كائناً مَن يكون، والأهم أنهم لا يقبلون أن يفرض ‏عليهم هذا الطرف حرباً ضد العالم لا يريدونها ولم يسعوا إليها. أصبحت الخيارات ‏‏“الوطنية” المتاحة لأكثر من نصف اللبنانيين: أن يهاجروا لو استطاعوا لكن السبل ‏لم تعد مفتوحة كما قبل مئة عام ولا تنفكّ تتقطّع، أو أن يعيشوا في الحرمان الشديد ‏والإقتيات من القمامات وأن تصبح الجريمة طبيعة ثانية للشعب، أو… أن يقدموا ‏على الانتحار الذي يفطّر القلوب ويفاقم اليأس. لم يشأ علي الهقّ استخدام سلاحه ‏للحصول على ما يعيل أولاده (كما فعل آخرون) بل لقتل نفسه، تاركاً تلك الرسالة: ‏‏“أنا مش كافر”، التي شاءها فتوى وصدى لمقولة “الجوع كافر”.‏

حين تُسدّ الآفاق الى هذا الحدّ لا يعود الانتحار مجرد تصرّف فردي، بل قد يصبح ‏ظاهرة جماعية يتخلّص أفرادها من عذاباتهم وقد يظنون في أعماقهم أنهم ربما ‏يساهمون في خلاص الجميع. أكثر ما يُلفت أن انتحار أربعة أشخاص خلال أربع ‏وعشرين ساعة لم يستدعِ أي تعليق أو حتى أسف من أي “مسؤول”، أقلّه لمواكبة ‏الغضب الشعبي الذي أصدر حكمه: “أنتو قتلتوه”. أسوأ المصائر أن يتحوّل أخوك ‏في الوطن ضدّك وأن يجعلك أداة لـ “مقاومة” العدوّ ثم لا يتردّد في مهادنة العدوّ ‏ليتفرّغ لمحاربتك – في لبنان وسوريا والعراق واليمن – إذ يرى فيك عدوّه الأول. ‏لا يهتم بك إن عشتَ أو انتحرتَ قهراً أو متَّ كمداً، ولا يهتم بأخوّتك في الوطن أو ‏بما تفكّر فيه وتطمح إليه. كل ما يهمه أن تحافظ على مسالمتك التي غدر بك ‏واستغلّها للتمكين، وأن لا تسأله عن سلاحه وأيديولوجيته وأهدافه التي يقتلك من ‏أجلها.‏

لبنان ذاهبٌ في الانهيار الى أقصاه. لا أحد يعرف قاعاً لهذه الأزمة. لا شيئ يُرتجى ‏من الحزب الحاكم/ “حزب الله”، ولا من رئاسة وحكومة ومؤسسات، ولا من تغيير ‏الحكومة. حتى القليل المتوقّع من صندوق النقد الدولي (لإبطاء الانهيار) يفعل ‏الحزب الحاكم وحلفاؤه كل ما يستطيعونه للمماطلة في الحصول عليه وتعطيله. قد ‏يتخذون على مضض بضع قرارات للإيهام بأنهم اصلاحيون باشروا مساراً ‏اصلاحياً، لكنها ستأتي متأخّرة وغير كافية لوقف الانهيار أو ابطائه، لكنهم ‏يتخذونها خوفاً من الفراغ بعدما تأكّد فشلهم وبدأت حكومتهم تترنح بين أيديهم. لم ‏تعد هناك أوهام، فهذا الفشل له أبٌ واحد هو “حزب الله”، فحتى البطريرك ‏الماروني بشارة الراعي الذي دافع طويلاً عن رئيس الجمهورية الماروني، بدأ ‏يخرج عن تحفّظه، إذ دعاه أخيراً الى “فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني ‏الحرّ”، وإلى ضمان “حياد” لبنان. لم يسمِّ “حزب الله” لكنه بلغ في المخاطبة أقصى ‏ما يستطيع، فلا أحد في لبنان وخارجه يجهل مَن يحاصر الشرعي ويصادر القرار ‏الوطني، ولا مَن قتل حياد لبنان الذي بات اليوم مفتاح الخروج من الأزمة.‏



جنوبية