جورج، ناجي، داني، بسام، علي، سامر، خالد، توفيق… لبنانيون وسوري وضعوا حدّاً لحياتهم ليتخلّصوا من معيشة أصبحت مسلسل عذاب يومي، صراعاً مع الجوع الزاحف، ودوراناً في حلقة العوز والذلّ والعجز عن تأمين الحدّ الأدنى: حليب الأطفال وخبز العائلة. فقدوا الثقة والأمل في حاضر البلد ومستقبله، وشعروا بأنهم لن يقووا على تحمّل أوجاع الأيام الآتية.
انكشف الفقر كما لم يحدث في لبنان إلا أيام المجاعة الكبرى، قبل مئة عام، حين طالت ثلاثة أعوام ونيّف بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى والحصار الغذائي العثماني – الدولي والجراد الذي التهم المحاصيل، فافتتحت في إبانها وبعدها موجة هجرة الى أي مكان ولا مكان. ثلث السكان قضوا ثمناً للتموضع العثماني في الحرب ضد الحلفاء الغربيين الذين أغلقوا الطرق التجارية الدولية لمحاصرة بقايا الإمبراطورية. لم يكن لبنان وحده في تلك المحنة بل غرق فيها المشرق العربي الذي لم تكن دوله ولدت بعد. قبل عامين، في 2018، رُفع الستار في بيروت عن “شجرة الذاكرة”. هي شجرة مصنوعة زُرعت في بداية “طريق الشام” على الرصيف المقابل للجامعة اليسوعية، وبين اسمَيّ الشارع والجامعة ارتسم التاريخ مختَزَلاً، وأُريد للشجرة أن تكون نُصباً تذكارياً لمئوية… المجاعة الكبرى. هل كان أصحاب الفكرة رؤيويين، هل أرادوا ألا تمر “مئوية لبنان” من دون استذكار المجاعة، هل دقّوا ناقوس الإنذار بأن التاريخ قد يعيد نفسه. آنذاك، كانت نذر الكارثة ورياحها تتجمّع، ليس في كواليس الدولة والمصارف فحسب، بل خصوصاً في النفوس، وكانت أصوات كثيرة تحذّر، لكن من يجب أن يسمع ويعمل لم يسمع ولم يعمل. وفي 2019، بعد عام فقط، هبّ الإعصار دفعةً واحدة وحطّم كل شيئ دفعةً واحدة: طريقة العيش والمعنويات وبقايا التضامن الاجتماعي، المال والاقتصاد، والحكم والحكومة. ولمفاقمة كل هذه التداعيات حلّ وباء “كورونا”.
بعد مئة عام، انتقل لبنان – الذي لم يكن موجوداً – من معاناة الصراع بين الدولة العثمانية والغرب، ليصبح – وقد صار “دولة مستقلّة” – ضحيّة الصراع بين إيران والغرب، تحديداً الولايات المتحدة. كأن كل ما طرأ من تغيير على التاريخ والخرائط لم يمنع تكرار المآسي بالسيناريوات ذاتها. المفارقة أن الحروب العربية – الإسرائيلية، بامتداداتها الاقليمية والدولية، لم تنعكس على لبنان بمثل ما يشهده حالياً، لكن إيران وجدت فرصة في اللاحرب العربية – الإسرائيلية لدفع البلد – وحده – الى أتون حربها ضد إسرائيل… من أجل نفوذها ومصالحها، لا من أجل الفلسطينيين أو اللبنانيين أو حتى الشيعة.
في الماضي نُسبت المحنة الى “السفّاح” جمال باشا، ممثل “الباب العالي”. كان السكان اقتحموا بلدية بيروت للتحذير من نقص المواد الغذائية، وبُذلت جهود مضنية للحصول (بأسعار فاحشة) على شحنات قمح بالقطار ولا تكفي إلا لفترة وجيزة، ثم فرض “السفّاح” حصاره وبدأت المجاعة مرفقة بكل المصطلحات الراهنة من احتكارات وسوق سوداء ومخابز عاجزة ورفوف خاوية في المخازن. واليوم باتت المحنة اللبنانية تُنسب أكثر فأكثر، حصرياً، الى “حزب الله”، بل الى حسن نصرالله ممثل “الوليّ الفقيه”، “الباب العالي” المستجد. طبعاً، هناك يمكن أن يُشار الى مسؤولين آخرين: حلفاء “حزب الله”، مأسسة الفساد ونهب الأموال العامة، الولايات المتحدة وعقوباتها، وقد انضمّ اليها أخيراً الأوروبيون وعرب الخليج. لكن اللبنانيين، شعباً ومجتمعاً وطوائف، لم يتصوّروا يوماً أن الدائرة ستدور عليهم ثم تُغلق على هذا النحو الخانق، الى حدّ تهديدهم بالمجاعة. أكثر من ثلثَي الشعب لا يسوّغون أن تكون دولتهم في “محور الممانعة” أو أي محور آخر، ولا يجيزون أن يصادر طرفٌ واحدٌ هذه الدولة كائناً مَن يكون، والأهم أنهم لا يقبلون أن يفرض عليهم هذا الطرف حرباً ضد العالم لا يريدونها ولم يسعوا إليها. أصبحت الخيارات “الوطنية” المتاحة لأكثر من نصف اللبنانيين: أن يهاجروا لو استطاعوا لكن السبل لم تعد مفتوحة كما قبل مئة عام ولا تنفكّ تتقطّع، أو أن يعيشوا في الحرمان الشديد والإقتيات من القمامات وأن تصبح الجريمة طبيعة ثانية للشعب، أو… أن يقدموا على الانتحار الذي يفطّر القلوب ويفاقم اليأس. لم يشأ علي الهقّ استخدام سلاحه للحصول على ما يعيل أولاده (كما فعل آخرون) بل لقتل نفسه، تاركاً تلك الرسالة: “أنا مش كافر”، التي شاءها فتوى وصدى لمقولة “الجوع كافر”.
حين تُسدّ الآفاق الى هذا الحدّ لا يعود الانتحار مجرد تصرّف فردي، بل قد يصبح ظاهرة جماعية يتخلّص أفرادها من عذاباتهم وقد يظنون في أعماقهم أنهم ربما يساهمون في خلاص الجميع. أكثر ما يُلفت أن انتحار أربعة أشخاص خلال أربع وعشرين ساعة لم يستدعِ أي تعليق أو حتى أسف من أي “مسؤول”، أقلّه لمواكبة الغضب الشعبي الذي أصدر حكمه: “أنتو قتلتوه”. أسوأ المصائر أن يتحوّل أخوك في الوطن ضدّك وأن يجعلك أداة لـ “مقاومة” العدوّ ثم لا يتردّد في مهادنة العدوّ ليتفرّغ لمحاربتك – في لبنان وسوريا والعراق واليمن – إذ يرى فيك عدوّه الأول. لا يهتم بك إن عشتَ أو انتحرتَ قهراً أو متَّ كمداً، ولا يهتم بأخوّتك في الوطن أو بما تفكّر فيه وتطمح إليه. كل ما يهمه أن تحافظ على مسالمتك التي غدر بك واستغلّها للتمكين، وأن لا تسأله عن سلاحه وأيديولوجيته وأهدافه التي يقتلك من أجلها.
لبنان ذاهبٌ في الانهيار الى أقصاه. لا أحد يعرف قاعاً لهذه الأزمة. لا شيئ يُرتجى من الحزب الحاكم/ “حزب الله”، ولا من رئاسة وحكومة ومؤسسات، ولا من تغيير الحكومة. حتى القليل المتوقّع من صندوق النقد الدولي (لإبطاء الانهيار) يفعل الحزب الحاكم وحلفاؤه كل ما يستطيعونه للمماطلة في الحصول عليه وتعطيله. قد يتخذون على مضض بضع قرارات للإيهام بأنهم اصلاحيون باشروا مساراً اصلاحياً، لكنها ستأتي متأخّرة وغير كافية لوقف الانهيار أو ابطائه، لكنهم يتخذونها خوفاً من الفراغ بعدما تأكّد فشلهم وبدأت حكومتهم تترنح بين أيديهم. لم تعد هناك أوهام، فهذا الفشل له أبٌ واحد هو “حزب الله”، فحتى البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي دافع طويلاً عن رئيس الجمهورية الماروني، بدأ يخرج عن تحفّظه، إذ دعاه أخيراً الى “فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ”، وإلى ضمان “حياد” لبنان. لم يسمِّ “حزب الله” لكنه بلغ في المخاطبة أقصى ما يستطيع، فلا أحد في لبنان وخارجه يجهل مَن يحاصر الشرعي ويصادر القرار الوطني، ولا مَن قتل حياد لبنان الذي بات اليوم مفتاح الخروج من الأزمة.
جنوبية