صحافة بيروت

صوت الراعي وصدى بعبدا: ما في حدا

تم النشر في 11 تموز 2020 | 00:00

من يعرف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يدرك إنّه ما ‏كان ليقول ما قاله في عظة الأحد 5 تمّوز الحالي في كنيسة الصرح البطريركي في ‏الديمان، لو لم يكن قد طفح الكيل عنده من عدم مبادرة رئيس الجمهورية العماد ‏ميشال عون للإقدام على خطوات جدّية، يمكن أن تنقذ لبنان الكيان وليس الوضع ‏المالي والإقتصادي المنهار فحسب. ذلك أن الراعي كثيراً ما يتمهّل قبل أن يحدث ‏الصدمة المطلوبة ويعتمد الحذر قبل المواجهة‎.‎

من يعرف الراعي يدرك أيضاً أنّه يعرف الرئيس ميشال عون جيّداً ويعرف طريقة ‏تعاطيه مع الأزمات وكيف يتمسّك برأيه حتى وهو يسير على حافة الهاوية، وحتى ‏وهو يقع في هذه الهاوية ويوقع معه البلاد والعباد. يعرف الراعي الرئيس عون ‏جيّداً منذ كان قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكرية، وقد رافق البطريرك مار ‏نصرالله بطرس صفير إلى بعبدا للقاء الجنرال في مرحلة حرب التحرير، والبحث ‏في اتفاق الطائف ثم في حرب الإلغاء وما قبل عملية 13 تشرين. يومها لم يستمع ‏عون إلى كل نصائح سيّد بكركي الذي كان ينقل إليه أيضاً رغبات الكرسي ‏الرسولي في الفاتيكان للخروج من الحرب والدخول في الحلّ‎.‎

ويعرف الراعي جيّداً ما حصل بين صفير وعون ذلك أنه عايش في بكركي ‏تفاصيل كل هذه العلاقة المتأزمة، وكان في الصرح الكبير عندما هاجمته الحشود ‏العونية واعتدت على البطريرك صفير ليل الخامس من تشرين الثاني 1989. تلك ‏الليلة لم يستطع المطران الراعي احتمال مشهد إهانة البطريرك والتعدّي على ‏الصرح فذهب إلى الكنيسة الصغيرة يصلّي حتى تنقشع الغيمة السوداء، وفي ‏ساعات الفجر الأولى كان يرافق البطريرك صفير إلى الديمان. كانت تلك المرّة ‏الأولى التي يُرغم فيها بطريرك على مغادرة مقره الشتوي إلى الصيفي في الشتاء ‏حزيناً، كئيباً ولكن غافراً لمن كانوا يدرون ماذا يفعلون‎.‎

سكوت الرئيس وكلام الراعي

لم يناشد الراعي "فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية ‏والقرار الوطني الحرّ" إلا بعدما أيقن أن الشرعية والقرار الحر في خطر. من ‏يعرف البطريرك الراعي يعرف أنه ما كان مضطراً إلى الإعلان عن موقفه في ‏عظته الكنسية، لو لم يكن قد قطع الأمل من أن يكون عون قد استوعب ما كان ‏يقوله له في لقاءاته معه. أكثر من مرّة ذهب البطريرك الراعي إلى القصر ‏الجمهوري وأكثر من مرّة تحدّث مع الرئيس عون وأكثر من مرّة استقبله في ‏بكركي، ولكنه دائماً كان ينتظر منه أن يفعل شيئاً، ودائماً لم يفعل، وكأنّه مستسلم ‏لقدر مجهول ولخيار معلوم. الفارق أن الراعي لم يكن وارداً عنده أن يستسلم أيضاً ‏لذلك القدر ولذاك الخيار. عندما ارتفعت بعض الأصوات تطالب الرئيس عون ‏بالإستقالة ذهب إلى بعبدا ودعم استمراره في الرئاسة. إذا كان بطريرك الموارنة قد ‏رفض المسّ بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الماروني فمن الطبيعي أن يرفض ‏المسّ بموقع "حاكم" لبنان ميشال عون الماروني. ولكنّ البطريرك لا يمكن أن ‏يستمرّ في السكوت على سكوت الرئيس‎.‎

يعزّ على الراعي أن يتم التعاطي مع "ندائه" كما تمّ التعاطي مع نداء البطريرك ‏صفير في 20 أيلول 2000 وأن يتجاهله الرئيس عون والمحيطون به وأن يتهرّبوا ‏من تحمّل المسؤولية، باعتبارهم أنّهم غير معنيين بهذا النداء وبأنّ الشرعية غير ‏محاصرة وبأنّ القرار الوطني الحرّ متوفّر في القصر الجمهوري، وبأنّ الراعي هو ‏الذي أخطأ في العنوان وعليه أن يصحّح سياسته لا أن يعيد تجربة سلفه صفير. هذا ‏المنطق فتح أبواب الإنتقادات ضد الراعي‎.‎

رهان لم يتحقّق

كان الراعي سعيداً جدّاً عندما تمّ التفاهم بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني ‏الحر" وعندما حصل تفاهم معراب بين الدكتور سمير جعجع وبين العماد ميشال ‏عون، وكان سعيداً أكثر عندما تمّ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية‎.‎

منذ وصل الراعي إلى سدة البطريركية في 15 آذار 2011 كان وضع في رأس ‏اهتماماته إعادة توحيد المسيحيين وتجاوز انقساماتهم. وعلى هذا الأساس تمكّن من ‏جمع الرئيس أمين الجميل والعماد عون والدكتور جعجع والوزير سليمان فرنجية، ‏وحاول معهم تجاوز إمكانية حصول الفراغ في رئاسة الجمهورية والحؤول على ‏الأقلّ دون أن يختار الآخرون رئيس الجمهورية الماروني، على قاعدة ما كان ‏يحصل خلال عهد الوصاية. وكان يريد أيضاً أن يكون هذا الرئيس متمتعاً بالحيثية ‏التمثيلية المسيحية وقوياً في بيئته ومتحرراً من أيّ وصاية. وعلى هذا الأساس كان ‏البطريرك مغتبطاً ومبتهجاً بخيار انتخاب عون. وهو لم يتوقّف عند هذا الحدّ فكما ‏مرّت مصالحة "القوّات" و"التيار" في بكركي كان لقاء المصالحة والمسامحة ‏والمصافحة والغفران بين الدكتور جعجع والوزير فرنجية في بكركي أيضاً. ولكن ‏كلّ ذلك لم يُترجم على الأرض قوةً في الحضور المسيحي الفاعل داخل الدولة ‏بسبب السياسات الخاصة التي أولاها رئيس الجمهورية لرئيس "التيار"، الذي ‏اختاره خليفة له الوزير جبران باسيل وبسبب الإرتماء في أحضان سياسة "حزب ‏الله". وبدل أن يبني العهد سياسته على أساس التفاهم المسيحي - المسيحي لإنقاذ ‏الكيان اللبناني والشرعية والجمهورية، ذهب في الإتجاه المعاكس وارتدّ على تفاهم ‏معراب وتبنّى استراتيجية الدفاع عن "حزب الله"، حتى في الموضوع المتصل ‏بسلاح الجيش اللبناني وقدرته على حماية الشرعية والجمهورية. كلّ هذه الهواجس ‏كانت تطرح في لقاءات البطريرك والرئيس ولكن دائماً من دون نتيجة كأن ‏البطريرك كان يحكي حتى تسمع الجدران لا الآذان‎.‎

الراعي بعد ثورة 17 تشرين

بعد انتفاضة 17 تشرين 2019 كنتيجة كارثية على ما آل إليه العهد بعد انقضاء ‏ثلاثة أعوام من عمره، وبعد تواري صورته وراء صورة الأمين العام لـ"حزب الله" ‏السيد حسن نصرالله الذي ظهر وكأنه هو الذي يقرر مصير لبنان، لم يعد من ‏الممكن أن يستمرّ صمت البطريرك. من مقرّه في بكركي كان يرى كيف تتمّ عملية ‏نقل لبنان في ذكرى مئويته الأولى من مكان إلى آخر، من لبنان المنفتح على العالم ‏إلى لبنان آخر منعزل ضعيف فاقد القدرة على الحياة وفاقد الهوية والهدف من ‏وجوده، الذي لم يكن إلا بإرادة بكركي ومسيرتها التاريخية والبطريرك الياس ‏الحويك. لم يكن بإمكان الراعي أن يشهد عملية القضاء على لبنان وأن يبقى ساكتاً ‏لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس. بدل أن تكون المئوية الأولى لإعلان لبنان ‏الكبير مناسبة لإعادة الإعتبار إلى هذا الكيان، ثبت للبطريرك وللمؤمنين بهذا ‏الكيان أن ما يحصل يصب في محاولة القضاء على هذا الكيان وعلى ما تبقى منه ‏اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ومن علاقات دولية لأنّ هذا الكيان لم يولد ليكون في ‏النهاية تابعاً لإيران، أو أرضاً يتحرّك عليها "حزب الله" ويضعها في خدمة أهدافه ‏ومشاريعه في المنطقة‎.‎

ليس في نية الراعي أن يخلق "لقاء قرنة شهوان" جديداً كي يحمل أهداف هذه ‏الإنتفاضة البطريركية، ولكنّه بكلامه حدّد السقف الذي يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق ‏ومتابعة من أجل تحرير الشرعية والجمهورية وإنقاذ لبنان الكيان، وتجديد هويّته ‏لمئة عام جديد لا أن يكون ما يحصل اليوم مجرّد عمليّة دفن لهذا اللبنان وللشرعية‎.‎

في عظته وقبل أن يتطرّق إلى السياسة، تحدّث البطريرك الراعي أولاً في رسالة ‏المسيح الذي أرسله الآب ليخلّص العالم، وأرسلَ كنيسته، المتمثّلة بالرسل الاثني ‏عشر، لتحمل إلى العالم سرّ محبة الله الخلاصيّة، من أجل حياة كلّ إنسان. ونبّهها ‏أنه "سيرسلها كالخراف بين الذئاب". ودعاها لتتسلّح بفضائل ثلاث: الحكمة ‏والوداعة والصبر. وكلمة المسيح تستحثّها: "الحصاد كثير، والفعلة قليلون" (لو ‏‏2:10)، وتشجّعهم كلمته الثانية: "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقوّوا أنا غلبت ‏العالم" (يو 33:16). وتعضدهم الثالثة: "انا معكم طول الأيام إلى انتهاء العالم" ‏‏(متى 20:28‏‎)".‎

النداء المثلّث

منطلقاً من هذه الخلفية المسيحية حدّد الراعي مواقفه وأدان إعطاء من يتولّون ‏السلطة الأولوية للمكاسب الشخصية واتّهمهم بإفراغ خزينة الدولة وأيّد "ثورة 17 ‏تشرين التي لن تنطفئ نارها". وبعدما دافع عن لبنان الحضارة الذي يريدون قتله ‏حدّد الأهداف وقال: "إنّ المرحلة التي بلغناها تحملنا إلى توجيه هذا النداء‎:‎

‎• ‎نناشد فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار ‏الوطني الحرّ‎.‎

‎• ‎نطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ ‏لخطر‎.‎

‎• ‎نتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، ‏وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه ‏التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حيادُ لبنان هو ‏قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية ‏السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على ‏شاطئ المتوسّط‎".‎

وضع البطريرك إصبعه على الجرح اللبناني. بهذا الكلام يلقي على رئيس ‏الجمهورية مسؤولية التقصير بالقيام بواجباته. ومن دون أن يسمّي يكشف عن ‏الجهة التي تحاصر الشرعية والقرار الوطني الحر. ويعتبر أنه تجاه تقصير ‏الرئاسة لا بدّ من العون الذي يأتي من العالم الغربي، الذي طالما كان الضامن لبقاء ‏لبنان من أجل تطبيق القرارات الدولية التي تحفظ سيادته وتكرّس وجوده وتكفل فكّ ‏الحصار عن هذه الشرعية حتى ولو لم ترد أن تفك الحصار عن نفسها‎.‎

قال البطريرك الراعي كلمته وهو مستمرّ في السير في هذا الطريق حتى لو تمّ ‏اضطهاده كما تمّ اضطهاد تلاميذ المسيح وحتى لو ردّ الصدى في بعبدا "ما في حدا ‏ولسنا معنيين"، وحتى إذا "ما مشيوا" بما طالب به "نحنا ماشيين ومكمّلين"، كما ‏ينقل عنه بعض زواره على قاعدة ما قاله المسيح عن الخراف المرسلة بين الذئاب، ‏ولكن على قاعدة أنه "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقوّوا أنا غلبت العالم". لأنه ‏في النهاية لن يصح إلا الصحيح وستنتصر كلمة الحقّ وسيبقى لبنان‎.‎


نداء الوطن - نجم الهاشم