ليست المرّة الأولى التي يخرق فيها رئيس الجمهوريّة الدستور الذي أقسم على حمايته والسهر على تطبيقه! للرجل باع طويل في هذا المجال.
هو دستور "الطائف" ذاته الذي رفضه سنة 1989 وحال دون تطبيقه، وصولاً إلى منع النواب من العودة إلى "المنطقة الشرقيّة"، فاضطرّ القسم الأكبر منهم للإقامة في فندق "السمرلاند" في غربي العاصمة. ولكن، للمفارقة هو الدستور ذاته الذي انتُخب على أساسه رئيساً للجمهوريّة. الخلاصة: يرفض الدستور إذا تعارض مع مصالحه الخاصة ويعترف به، من دون شرح أو تفسير، إذا كان من شأن ذلك تحقيق الحلم بالوصول إلى الكرسي الرئاسي.
نعم، هو الدستور ذاته الذي انتخب بموجبه الرئيس الشهيد رينه معوّض والرئيس الراحل إلياس الهراوي، وأصرّ آنذاك العماد ميشال عون على تسميتهما "السيّد معوّض" و"السيّد الهراوي".
إنتقالاً إلى المجلس النيابي، السلطة التشريعيّة الأمّ التي كان للرئيس فيها، ولا يزال، كتلة نيابية وازنة تعكس حيثيّة تمثيليّة وشعبيّة لا يمكن إنكارها، إعتبر العماد عون أنّ المجلس غير شرعي (أي المجلس السابق الذي انتخبه) بفِعل التمديد لولايته والإمتناع عن إجراء الإنتخابات النيابيّة في مواعيد إستحقاقها، بسبب الظروف التي مرّت فيها البلاد. ولكن، عندما عُقدت التسوية الرئاسيّة لمصلحته، غضّ الطرف عن هذا الطرح، وتجاوز أقواله السابقة بأنّ المجلس غير شرعي، وقبِل بنتيجة إنتخابه، ومشى على السجّاد الأحمر مُستعرضاً الحرس الجمهوري بفخر واعتزاز. لا داعي بالتذكير طبعاً بالمحطّات العديدة الأخرى التي سُجّلت في هذا المجال، وفي طليعتها خلق أعراف سياسيّة جديدة وغير مألوفة، منها مثلاً تأخير تشكيل الحكومات لأشهر طويلة، تمسّكاً بمرشحين معيّنين (حتى ولو كانوا من الراسبين في الإنتخابات النيابيّة، بما يُناقض الحدّ الأدنى من الثقافة الديموقراطيّة. بمعنى أن تكافئ مرشحاً سقط في الإنتخابات بحقيبة وزاريّة!)، بالإضافة إلى التمسّك العنيد بحقائب وزاريّة معيّنة (فشل شاغلوها من العونيين ومستشاريهم فشلاً ذريعاً في إدارتها وعتمة الكهرباء مثال "ساطع"!)، كما تعطيل إنعقاد الحكومة بسبب التمسّك بمرشّحين معيّنين لمناصب عسكريّة وأمنيّة وإداريّة وقضائيّة.
أما الطامة الكبرى في خرق الدستور وإستيلاد الأعراف السياسيّة الجديدة فتمثّلت في تعطيل نصاب مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية لـ 43 جلسة متتالية، بانتظار توفر التسوية لإنتخاب العماد عون، واستغرق التوصّل إلى هذه التسوية إبقاء البلاد لمدّة عامين ونصف في حالة من الشغور الرئاسي! المُلاحظ من هذه الأمثلة أنّ "الثقافة العونيّة" (وقد لا تكون كلمة ثقافة هي الأفضل في هذا المجال) القائمة على مبدأ التعطيل تتمركز دائماً حول الأشخاص: تعطيل البلاد لانتخاب الرئيس، وتعطيله عند كل تأليف حكومي لتوزير شخصيّة ما، وتعطيله عند الخلاف على التعيينات، وإلى ما هنالك من أمثلة. (لتفاصيل أوسع عن هذه العناوين يُمكن للقارئ مراجعة كتابي بعنوان: "قراءات في أزمات لبنان والمنطقة" الصادرعن الدار العربيّة للعلوم ناشرون- بيروت).
ولا تنسوا بدعة الثلث المُعطّل التي فعلت فعلها عند كلّ منعطف، واستُخدمت كورقة إبتزاز لرئيس الحكومة، وكانت ذروتها "إقالة" رئيس الوزراء سعد الحريري سنة 2010 من خلال إستقالة 11 وزيراً، وبطريقة لا تخلو من الحقد والإنتقام، إذ أعلنت الاستقالة أثناء إجتماع الرجل مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، فدخل إلى الإجتماع رئيساً للحكومة وخرج منه رئيساً لحكومة مستقيلة! ولا تنسوا أيضاً أنّ الرئيس الحريري قاد جهود التسوية الرئاسيّة سنة 2016 التي أوصلت عون إلى قصر بعبدا!
أما العرف الجديد الذي ابتدعه الرئيس فهو التأليف قبل التكليف. نعم، صار رئيس الجمهوريّة يتجاوز الدعوة الى الإستشارات النيابيّة الملزمة (بإجرائها ونتائجها) لتكليف رئيس جديد للحكومة، ويتولّى هو جانباً مهمّاً من هذه الإستشارات، مُتجاوزاً الدستور والأعراف، ووصل به الأمر بعد إستقالة الرئيس الحريري عقب إندلاع الإحتجاجات الشعبيّة في 17 تشرين الأول 2019، إلى إستدعاء شخصيّات للتشاور معها في مسألة التكليف، من دون إعتبار لآراء الكتل والمجلس النيابي والمكوّنات السياسيّة التي يتألّف منها هذا المجلس.
صحيحٌ أنّ الدستور لا يُحدّد مهلة معيّنة للدعوة إلى الإستشارات، ولكنّ نصوصه وروحيته لا تخوّل رئيس الجمهوريّة الإلتفاف على المؤسّسات الدستوريّة. للتذكير، النظام اللبناني ليس نظاماً رئاسياً خصوصاً بعد إتفاق الطائف.
ثمّة من صرّح قائلاً: "أحبطنا مؤامرة لإسقاط العهد". بعد كل هذا الأداء السيّئ، بات من المفترض القول إنّ إستمرار العهد هو المؤامرة بحدّ ذاتها، وليس العكس!
نداء الوطن - رامي الريس