منوعات

هل يبقى تراث بيروت المعماري متفيئاً تحت ظلال "الجميزة"؟! (٢/٢)‏

تم النشر في 31 آب 2020 | 00:00

زياد سامي عيتاني*


شارع "الجميزة" إكتسب أهميته من سحر تاريخي وتراثي تتمثل ببيوته، قبل أن تغذوها المعادلة الإستثمارية السياحية المستجدة والمتصاعدة إعتباراً من العام 2002، لتصبح عنواناً للسهر والحياة الليلية والمقصد السياحي، دون تعديل جذري في هوية التصميم الأنيق لمعالمها التاريخية والتراثية ونمط الحياة الذي كان بعيداً عن الصخب والضجيج والزحام، مع إستنباط وسائل التوظيف والإستثمار الفني الإبداعي في المنطقة، في محاولة للمحافظة على هويتها وروحها...

هذا ما يجعل أهل "الحميزة" حتى اليوم يفتخرون أنّ رئيس رئيس جمهورية فرنسا الراحل الجنرال شارل ديغول كان يقيم، خلال وجوده في لبنان من حين إلى آخر، في أحد قصوره، الذي كان ملكاً لعائلة «برنار» الفرنسيّة، وهو القصر الذي سكن فيه أيضاً المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا الجنرال هنري غورو، الذي تولّى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 بعد فصله عن سوريا...

**

•التوسع والتأثر :

تأثرت "الجميزة" كغيرها من المناطق البيروتية عندما توسعت رقعة المدينة إلى خارج الأسوار بفعل إزدياد الوافدين إليها، مقروناً مع التزايد السكاني، لجهة مراعاتها للتحول العمراني، الذي شكل مدخلاً لإعتماد تنظيم تدريجي جديد لنمط العمارة من خلال إستخدام طراز هندسي جديد، خصوصاً مع إتساع نطاقها الجغرافية، بعدما أضيف شارعي"غورو" و"باستور" إدارياً إليها، حيث أن الطريق التي كانت تنطلق من جنوبي شرقي ساحة "البرج" وتمتد بموازاة "برج الكشاف" بقيت حتى العام 1909 تسمى "درب النهر"، ثم سميت بـ "شارع محمود شوكت باشا"، وكانت مخصصة لعبور عربات الخيل والسيارات التي تؤمن خط المواصلات إلى شمال لبنان. وفي العام 1919 سمي هذا الشارع بمبادرة من الأهالي بـ "شارع غورو".

أما الشارع الثاني الموازي لشارع "غورو" في منطقة "الجميزة" فيحمل إسم اليولوجي الفرنسي الشهيد "باستور".

**

•تحفة معمارية تراثية:

هذه العوامل إنعكست بشكل واضح على معالمها العمرانية، التي أبرزت أناقة ورقي الطراز الهندسي المنسق والمنسجم لتلك الحقبة، والتي تجسدت في بيوتها ومنازلها المؤلفة من طبقتين أو ثلاث، والمترامية الأطراف، والمتباعدة، والمكللة بالقرميد الأحمر، والمحاطة بحدائق خاصة، بعدما تم إقفال الفناء الداخلي السموي الذي كان معتمداً، وسقفه بالقرميد، والافادة من الفسحة المذكورة ببناء الشرفات المسورة بـ"درابزين" من الحديد المشغول، تحتوي مجموعة من القناطر والأعمدة الرخامية. كما أُبدلت "القمريات" بالنوافذ المجهزة بدرفات من الخشب (أباجور) تسمح بدخول النور والهواء. وصارت للبيوت واجهات مؤلفة من ثلاث قناطر تتضمن زخارف من الخشب المخروط بأشكال نباتية ومن زجاج ملون وأعمدة رخامية.

فتحولت فعلاً "الجميزة" إلى عالم ساحر يضج بالتاريخ والأصالة التراثية...

**

•درج مار نقولا "الفن":

ومن أبرز معالم شارع "الجميزة" "درج مار نقولا" الذي صار يعرف بـ "درج الفن". وهذا الدرج كان في الماضي ممراً من التراب، ويختبىء فيه الهاربون من الأتراك، لكن الأتراك إستدركوا الأمر، وسوروه بالحجارة، فصار أشبه بجسر غير مرتفع. وفيما بعد عاد مجدداً ليكون ملاذاً للهاربين، لكن هذه المرة، من جنود الإنتداب الفرنسي. مع الإشارة إلى إن هذا الدرج لم يتحول إلى 202 درجة تمتد على مساحة 150 متراً إلا في الستينيات. وطبعاً، طاولته الحرب الأهلية، قبل أن يرمم في سنة 1999، بهدف تحويله إلى مساحة فنية على غرار درج "مونمارتر" في فرنسا.

ليصبح هذا الدرج معلماً فنياً، يضاف إلى الهوية الثقافية والتربوية للمنطقة التي تضم أول مسرح في الشرق، وهو مسرح "مارون نقّاش"، مدارس "السانت فامي"، الفرير"، "التلات قمار"، ومدرسة "الأوروغواي" الرسميّة.

**

شارع "الجميزة" إكتسب أهمية أخرى توازي أهميته المعمارية والتراثية، يتمثل بالبعد الإنساني والإجتماعي، الذي يعبر عن جوهر وصميم النسيج البيروتي بمدلوله المجتمعي التعايشي التكاملي، حيث كانت "الجميزة" الشقيقة "اللدودة" ل"البسطة"، لجهة أنها معقلاً لقبضايات "الأشرفية"، أصحاب النخوة والشهامة الذين يناصرون أبناء منطقتهم ويهبون لمساعدتهم وتقديم يد العون لهم، ويغارون على مصلحة أبناء محلتهم ويناصرون الضعيف والمظلوم ويقاتلون "الأزعر"، وكانت كلمتهم كلمة وفعلهم فعل.

وكان "قبضايات الجميزة" يشكلوا إمتداداً لإخوانهم من قبضايات "البسطة"، الذين يشكلون سوياً نموذج التعايش البيروتي القائم على التلاقي والإندماج والمؤاخاة...

ولما كانت "القهاوي" (المقاهي) التي المنتدى الإجتماعي لأهالي وأبناء "المحلة" البيروتية، ومعقل "القباضايات" فيها، حيث لكل واحد منهم طاولته الخاصة، فكان من الطبيعي أن تنتشر تلك "القهاوي" في "الجميزة"، وكان آخرها التي لفظت أنفاسها منذ أعوام، "مقهى الجميزة" الذي وكان يعرف هذا المقهى بـ "قهوة القزاج" (غير "قهوة القزاج" التي كانت موجودة في ساحة البرج).

وتاريخ هذا المقهى يعود للعام 1929 وكان وقتها عبارة عن خيمة أقامها أحد "قبضايات" المنطقة المعروف بـ "الأسطا باز"، على واجهة إحدى البيانات وبعد سنوات عدة إشترى المبنى حسن الصمدي وتحولت الخيمة إلى مقهى مع إبقاء باز على إدارتها وجعل واجهاتها من الزجاج.

ومنذ ذلك الحين صارت المقهى ملتقى ومقصداً لأهل المنطقة والأحياء المجاورة.

وفي العام 1945 قرر يوسف عبود أن يستثمر المقهى الذي أضاف إليه بعض التحسينات وصار يستقطب أبناء المنطقة الأرستقراطيين وكبار القوم والوجهاء والسياسيين أمثال الشيخ بيار الجميل والرئيس صائب سلام والرئيس كميل شمعون وفؤاد بطرس وميشال ساسين والمير مجيد أرسلان وغيرهم.

وكان عبود قد أوصى بالمقهى بعد وفاته لسيدة من آل أبي حيدر التي بدأت بإدارتها في عام 1951 إلى حين إقفاله مع بداية الأحداث، ثم أعيد إفتتاحه في مطلع الثمانينات، وبعد العام 1992 عاد المقهى على يد أنجيل إبنة السيدة أبي حيدر لينفض غبار الزمن والحرب عنه ليستقبل مجدداً زواره ورواده القدماء والجدد.

يذكر في هذا السياق أن مقهى "القزاز" في الجميزة كان أول من إستقبل النساء في بيروت لتناول القهوة وتدخين النارجيلة ولعب الورق والطاولة، حيث أن ذلك كان ممنوعاً تبعاً للتقاليد الإجتماعية التي كانت آنذاك ومنها أنه كان معيباً على النساء إرتياد المقاهي والإختلاط مع الرجال، فجاء مقهى "الجميزة" لكسر هذا التقليد، وكان اول مقهى مختلف.

**

شارع "الجميزة" بأزقته الضيقة المتعرجة و المظللة بالأشجار المعمرة، وبيوته التراثية ذات الأبواب العتيقة والنوافذ الخشبية، وقناطره المثلثة، وشرفاته المستديرة، وأسقفها القرميدية، وحكاياته وقصصه المحفورة على حجارته الرملية تمكن من "الهرب" من فورة العمران الحديث، لكنه لم يتمكن من أن يهرب الدمار الذي لحق به من جراء إنفجار مرفأ بيروت المزلزل!!!

**

-إنتهى.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.