زياد سامي عيتاني*
تطل اليوم (٢ تشرين الثاني ١٩٧٥) الذكرى ال ٤٥ لرحيل "شوشو" حسن علاء الدين،الفنان العبقري والمغامر والجريئ، صاحب الشخصيته الفنية الفذَّة والأعمال المسرحية التي أسست للمسرح اليومي والفرقة الثابتة، الذي جعله فخوراً ومعتزاً بما قدمه من أعمال خالدة دونها بعرق جبينه على خشبات مسرحه الوطني، ليصبح عرشه الذي تربع عليه ملكاً إبداعاً وتمثيلاً وتعبيراً فكاهياً عن وجعه ووجع الناس... فكانت ظاهرة إستثنائية لن تتكر قط في لبنان!
لقد قدم "شوشو" واحدة من أعقد الشخصيات الفنية وأكثرها إثارة للجدل، لتتحول إلى شخصية فنية ذات معان حسية وأبعاد إنساية تضج بالحياة من خلال سخريته العنيفة، نتذكر منها تلك الصرخة المدوية " أخ يا بلدنا" التي أطلقها، والتي عبرت إلى أقصى الحدود بجرأة وشجاعة عن وجع الناس، التي مازال اللبنانيون يرددونها كل يوم، لما تختزل حروفها من تعبير صادق لأوجاعم المتراكمة والمتكاثرة والمتزايدة لحد فقدان الأمل...
إنه بإختصار "شوشو" المغامر الإنتحاري، المجنون (ربما) الذي نقش إسمه على فضاء المدينة، حيث سد الفراغات الهائلة بالمسرح الشعبي-الهادف، وبالجمهور المتفاعل إلى أقصى الحدود، حتى تحول إلى أسطورة مسرحية، لا بل أسطورة المسرح...
**
•"البسطة" مسرحه الأول:
سكن الفنان «شوشو» حسن علاء الدين (1939-1975) لمدة ثلاثين عاماً تقريباً في الطبقة الأولى من مبنى متواضع في محلة "البسطة" التي كانت عمق بيروت الشعبي ومعقل "القبضايات" ومسرحاً يومياً لحياة المدينة المتناقضة.
عاش أسطورة المسرح الشعبي في هذا الحي البيروتي، عاش فيه متواضعاً" وهادئاً وخجولاً ومهذباً (رغم شخصيته المسرحية الثائرة)، ومات "درويشاً" ومديوناً ومقهوراً!!!
•يساريٌ بالفطرة:
لم يكن منتمياً إلى أي حزب سياسي، ولم يكن أيديولوجياً، لكنه كان يساري الهوى، أو "يسارياً بطريقة عفوية"، إذ تمكن بفضل عبقريته الإستثنائية من تحويل الكوميديا الى عمل سياسي – إجتماعي ونقدي.
•شخصيته:
تميزت شخصية "شوشو" بطابع خاص إستقاه من وحي شخصية "شارلي شابلن"، لكن حسن علاء الدين طوّر شخصية "شوشو" بشكل أنسى معها المشاهدين لعشر سنوات (1965 -1975) أن "شوشو" مستوحى من الكوميدي العالمي. هو أيضاً أحبّ "لوريل وهاردي" وتأثّر بالكوميديا العربية وأعجب "ببشارة واكيم"، و"إسماعيل ياسين".
إن صوته وصفاته الجسدية (نحيل وضئيل الجسد وشعره كث طويل مجعد وشارباه كثيفان بشكل طبيعي ومن دون إضافات، وصوته رفيع مميز، ولكنته يأكل معها العديد من الأحرف وينطقها بطريقة مضحكة وطفولية وعفوية)، كلها تضافرت مع النصوص الجدية جداً، لتخرج من هذه الخلطة شخصية لم تضاهها في التأثير والشهرة أي شخصية أخرى.
في التمثيل، ساعده جسم مرن طيّع يمكنه أن يؤدي الكوميديا الحركية والإيمائية، وصوت يعرف كيف يتلاعب به. وتقنية رفيعة في الأداء الكوميدي مقرونة بميزان يقيس ضحك الجمهور ولا يخطيء.
•عاشق للمسرح:
كان "شوشو" عاشقاً للمسرح، حيث يحضر إلى الخشبة قبل ساعتين من العرض، ينير غرفه و قاعاته بالكهرباء، يجلس بين الكواليس يدخن، يفتل شاربيه، و ينام أحياناً بين الكواليس، إذ كان يضع أريكة صغيرة لينام عليها.. كأنما تراب الخشبة يمدّه بالأوكسجين. يعمل ماكياجه بنفسه، يطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام، ثم ينطلق إلى الخشبة، وحين يسمع ضحكات الجمهور وتصفيقه ينسى همومه النفسية وآلامه البدنية.
•المسرح الشعبي الراقي:
تطور أداؤه من مسرحية إلى أخرى حتى إستطاع مسرحه أن يطور نوع الكوميديا التي يقدمها. وأصبح مسرحاً شعبياً لا من حيث إقبال الجماهير فحسب، بل كونه أصبح منبراً شعبياً. وبلغت عروضه الذروة مع مسرحية "آخ يا بلدنا" التي كتبها فارس يواكيم وأخرجها روجيه عساف، والتي تخللها الأغنية-الصرخة "شحادين يا بادنا" كلمات ميشال طعمة وألحان إلياس الرحباني.
•شحادين يا بلدنا:
أطلق المرحوم "شوشو" من خلف جسده النحيل وشاربيه الكثين أغنية "شحادين يا بلدنا" في مسرحيته "آخ يا بلدنا" سنة 1974، كلمات الأغنية تنطبق على واقع ذلك الزمان حيث كان لبنان في بحبوحة وهناك فائض في الميزانية، ولم يكن هناك دين ولا عجز وإقتصاد منهار وظروف معيشية كارسية وفساد غير المسبوق الذي نعيشه في أيامنا، وكأنه كان سابق لعصره وزمانه، ليتنبأ ما سوف تؤول إليه الأوضع من إنحدار مخيف ومقلق على مستقبل وطنه، حيث تتكلم الاغنية عن نشالين ونصابين وعطشانين ومظلومين وجوعانين وطفرانين واراض وجرايد و ضماير ووزراء ومدراء وحجاب وشعراء وكتاب للبيع...
وعلى ضوء هذه الأغنية، دعت النيابة العامة "شوشو" للمثول أمامها للتحقيق في هذه الجريمة الكبيرة(!) بعد أن داهم عدد من رجال الأمن مكتبه و صادروا 135 أسطوانة و طلبوا سحب الاسطوانات من الأسواق!!!
•النكتة السياسية الساخرة:
إشتهر بأنه يضّمن مسرحياته “لطشات سياسية” تتضمن نقداً لحالة راهنة. وكان الجمهور يطرب لهذه النكات ولم يكن السياسيون (موضوع الإنتقاد) ينزعجون، لأن النقد مغلف بالسخرية.
وذات يوم إنطلقت شائعة مفادها أن "شوشو" ألقى نكتة (بدي صباط فرعته فرنجية شريطه كامل يصائب ع إجري)، وهي ليست بنكتة بل شتيمة. والقصة مفبركة من أساسها. لكن الشائعة إنتشرت كالنار في الهشيم ورافقها أنه اعتقل بسببها. إلى حدّ أن صديقاً إتصل به في مكتبه وسأله “صحيح إنت معتقل؟ فأجابه: "ما إنت عم تطلبني ع مكتبي".
ملأ "شوشو" الأجواء ضحكاً وإنتقاداً للسيئ السائد في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وهو يقض مضاجع الفاسدين من سياسيين وغير سياسيين في البلد، وأصبحت إنتقاداته نكاتاً تتردد على الألسنة وفي الشوارع والصالونات وكل مكان.
•تحويل سينما "شهرزاد" إلى "المسرح الوطني":
أنشأ "شوشو" والمخرج والمؤلف القادم من طرابلس نزار ميقاتي والكاتب وجيه رضوان في تشرين الثاني 1965 في ساحة "البرج" “المسرح الوطني”، عندما حولوا صالة سينما "شهرزاد" التي كانت تعاني من ركود في العمل إلى مسرح يومي، وكوَّنوا فرقة له بطلها ونجمها "شوشو" نفسه، الذي كان يكثف من عطائه ويضاعف من طاقاته لتتوالى العروض المسرحية على خشبة “المسرح الوطني” إذ وصلت إلى 24 مسرحية، كأنه يتوقع موته المبكر(!)، حيث كان على سباق دائم مع الوقت.
الطريف في الموضوع أن "شوشو" كان يمر بالمصادفة من أمام صالة “شهرزاد” فوجد مديرها ومدير صالة سينما “دنيا” أنطوان شويري عند مدخل السينما، فسأله "شوشو": هل تؤجرني هذه الصالة؟ فقال له: لماذا؟ قال: أريد أن أجعل منها مسرحاً. قال الشويري: أنا جاهز، تعال متى شئت. فصعق "شوشو" من الجواب، إذ لم يكن يتوقع أن يوافق شويري على تأجيره إياها بهذه السهولة. وفي اليوم التالي قصد شوشو الكاتب وجيه رضوان في “مقهى الحاوي” وقال له: لقد جاءت ليلة القدر. سأله: كيف؟ أجابه: اتفقت مع أنطوان شويري على تحويل سينما “شهرزاد” إلى مسرح.
مضت الأيام فعرض رضوان الفكرة على المخرج نزار ميقاتي وعرّفه إلى "شوشو"، وتوجه الثلاثة إلى ساحة "البرج" وناقشوا الموضوع مع صاحب سينما “شهرزاد” هنري شقير ومديرها أنطوان شويري، وتم الإتفاق على أن يتولى شقير وشويري إعادة ترميم الصالة وتهيئتها بصورة جيدة لتصبح مسرحاً، على أن يتولى الثلاثة رضوان وميقاتي و"شوشو" تجهيز المسرح والممثلين وسائر العناصر اللازمة لقيام مسرح تمثيلي. وصعدوا في الليلة نفسها إلى مقهى "نصر” في الروشة وتوزعوا الصلاحيات والمهام، وقسموا الحصص، على أن يكون لشوشو أربعون في المئة ولنزار ميقاتي أربعون في المئة ولوجيه رضوان عشرون في المئة...
•من "المسرح الوطني" إلى مسرح "شوشو"
وفي 1972 تغيّر إسم المسرح الوطني وصار "مسرح شوشو". وكتبت مرة الأديبة غادة السمّان مقالا ذكرت فيه أنها طلبت من سائق التاكسي أن يوصلها إلى "المسرح الوطني" فلم يعرف العنوان، وحين قالت له “عند شوشو” ضحك وأوصلها إلى باب المسرح!
•الديون قضت على "شوشو":
بالرغم من أن مسرح "شوشو" كان يغص بالجمهور كل ليلة، فإن الديون رافقت التأسيس وبالفوائد الباهظة، خصوصاًوأن "شوشو" لم يكن يملك المال عندما أسس المسرح ولم ينجح في الإستدانة من المصارف، فلجأ إلى المرابين وكانت الفوائد باهظة 5% في الشهر، الأمر الذي جعل مشكلة الديون تكبر كمثل كرة الثلج وتتركاكم، حتى تغدو أحد الأسباب التي قصفت عمر الفنان القدير مبكراً !!!
فإيراد شباك التذاكر كان يذهب نصفه إلى صاحب القاعة والنصف الآخر إلى "شوشو" وشريكه محمد الطوخي. وبعد دفع رواتب الممثلين والعاملين في الفرقة وتكاليف الإنتاج يتقاسم "شوشو" والطوخي ما تبقى من مال. وكان على "شوشو" أن يدفع 60% فوائد الديون للمرابين. وبالقليل الذي يبقى له ينفق منه على مصروفه الشخصي ومصروف عائلته. الأمر الذي دفعه إلى إنتاج أفلاماً سينمائية بقصد زيادة المدخول للتمكن من الوفاء والإلتزام بالمستحقات المالية المترتبة عليه. لكن ومن سوء طالعه أن هذه الأفلام لم تحقق الأرجاح المرجوة فتضاعفت ديونه!!!
هذه الديون أرهقت "شوشو" مالياً ونفسياً، بل وصحياً. فكان يمضي وقتاً طويلاً في تدبير أمر تدويرها وسدادها.
بيد أنه برغم ديونه الباهظة، كان "شوشو" يحرص على دفع رواتب عناصر الفرقة في اليوم الأول من الشهر، وعلى صرف المكافآت المتفق عليها للكتاب والمخرجين.
**
كانت وفاة شوشو عام 1975 إيذاناً بموت الزمن الجميل، فانطفأت شعلة "المسرح الوطني" وتوقف قلب بيروت عن الخفقان وأظلمت ساحة البرج ودفنت وحشية الحرب وإجرامها مسارح بيروت التقليدية والتاريخية، لتنطوي صفحة مضيئة من تاريخ العاصمة، ليتحول البلد من وقتها إلى "خيمة كاراكوز" !!!
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.