منوعات

هكذا كانت بيروت تتحضر وتحتفل بحلول شهر رمضان المبارك...‏

تم النشر في 12 نيسان 2021 | 00:00

زياد سامي عيتاني*‏




ينتظر العالم بأسره، بكثير من الشوق والحنين، قدوم شهر رمضان المبارك، ليحل عليهم ضيفاً ‏عزيزاً، ويُدخل البهجة والسكينة إلى قلوبهم، وخصوصاً انه يكتسب مذاقاً خاصاً، حيث تمتزج ‏فيه الروحانيات والنورانيات مع عبق وقبس العادات والتقاليد والذكريات الرمضانية ذات الطابع ‏التراثي...‏

ومدينة بيروت التي ترسّخت جذورها منذ القدم على الإيمان والتقوى والورع والتديّن، كانت ‏تزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح ويغلب على أجوائها الطابع الرمضاني، وتستعد ‏وتتحضر باكراً للشهر، حتى لما يحل تكون النفوس والأفئدة مهيأة له...‏

وقد كان لشهر رمضان المبارك تقاليد وعادات دينية واجتماعية متعددة، متوارثة من جيل إلى ‏جيل، حتى أصبحت هذه التقاليد والعادات جزءاً من المظاهر المحببة والمألوفة التي ارتبطت ‏بتاريخ بيروت وتراثها الشعبي...‏

لذلك، كان يُستقبل شهر رمضان المعظّم في بيروت، إسوة بكافة البلدان والمدن العربية ‏والإسلامية بحلة زاهية، وتُقام له الإحتفالات إبتهاجاً وترحيباً...‏

‏**‏

‏•تزيين وإضاءة المساجد والأحياء:‏

إذن، كانت بيروت تستقبل قدوم شهر رمضان الفضيل بحلّة زاهية فتزدان شوارعها وزواياها، ‏وتضاء فيها المصابيح وتشعّ أنوار مساجدها ترحيباً واحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة، حتى ‏كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع، مما يُدهش الناظر ويسر الخاطر، ‏وتُصبح ليالي شهر النور بالضياء باهرة وبالعطور ساحرة، مثل النجوم الساطعة في السماء ‏الصافية، فيصبح ليلها الرمضاني مشعاً متلألئاً كالقمر المكتمل ليلة التمام...‏

كما كانت تتزيّن الساحات العامة والأحياء بالأعلام والأضواء وسعف النخيل الأخضر، وتنصبّ ‏على مدخل دار الإفتاء وأبواب المساجد أقواس النصر، وترفع يافطات الترحيب برمضان ‏والمتضمنة بعض الآيات القرآنية الكريمة من وحي المناسبة.‏

وكانت تعتمد زينة رمضان على الأضواء بشكل كبير، بالإضافة للأشكال الجمالية التي كانت ‏إحدى الطقوس الشعبية في الاحتفال بشهر رمضان المبارك. فكان أحد أبرز أشكال الزينة ‏الاحتفال بشهر رمضان هو تزيين الشوارع والمساجد بسلاسل "اللمبات" المضيئة والتي تضم ‏الكثير من الألوان والحركات الضوئية التي تمتد لمئات الأمتار، وتمتد من منزل لآخر ومن شارع ‏لشارع. ‏

كذلك كانت تأتي زينة رمضان في شكل أوراق ملونة ومليئة بالزخرفة حيث تمتد بين البيوت، ‏وتأخذ أشكال الأهلة والنجوم والفوانيس.‏

وفي ظاهرة لافتة تعبر عن التعاضد بين أبناء "الحي"، حيث كان يتشارك الأهالي بشكل كبير في ‏تحضير زينة رمضان وتركيبها كإحدى أشكال التعاون المعروفة في الشارع البيروتي، إذ كانوا ‏يتداعون فيما بينهم قبل بضعة أيام من رمضان، ويتطوعون لشراء الزينات من مالهم الخاص ‏ومن دعم المتبرعين، ثم يسارعون إلى تحضيرها وإعدادها لتصبح جاهزة للتعليق، فينقسون إلى ‏مجموعات، منهم من يتسلق السلالم الخشبية، ومنهم من يصعد إلى شرفات المنازل، لتركيب ‏وتعليق الزينات، وسط حالة من الفروح والسرور والتعاون كانت تعم أهالي وأبناء المنطقة ‏الواحدة.‏

‏**‏

‏•مونة رمضان:‏

كان البيروتيون يحرصون قبل حلول الشهر الكريم إلى تموين منازلهم بكل ما يحتاجونهم للشهر، ‏حيث كانوا يطلقون عليها تسمية "مونة رمضان"، فيقصدون أسواق "المدينة"، التي يسمونها ‏‏"البلد"، لا سيما "المعرض" وسوق "أبو النصر" للتبضع وشراء الأرز والسكر والعدس والفول ‏والحمص والبقوليات، والبهارات على أنواعها، والسمن البلدي، والقلوبات، والفواكة المجففة ‏و"القمر الدين"، والقطايف والأجبان والحلاوة والطحينة.. وبعضهم كان يقصد سوق "الزجاج" ‏والمحلات المنتشرة في ساحة "البرج" لتجديد الأواني المطبخية والصحون والكبايات وباقي ‏مستلزمات "سفرة" رمضان كنوع من الإحتفاء بالشهر الكريم.. أما اللحوم والدجاج والفاكهة ‏والخضار (لاسيما "عدة الفتوش"، فكانوا حريصين على شرائها يوماً بيوم طازجة من "درج خان ‏البيض" وسوق "اللحامين" وسوق "النورية، حيث كانت تشهد تلك الأسوق خلال رمضان والأيام ‏التي تسبقه زحمة غير مسبوقة تزداد على الزحمة المعهودة فيها، حتى تكاد أن لا تجد موطئ ‏قدم، وسط "عجة" البياعين والناس "عتالي السل" المقرونة بزحمة سيارات الإجرة (السرفيس) ‏و"الأوتوبيسات" (جحش الدولة)...‏

فما أن يطل رمضان تكون البيوت قد تهيأت وتجهزت بمونته وكل مستلزماته.‏

‏**‏

‏•"سيبانة" رمضان:‏

إعتاد البيارتة كذلك التحضر لرمضان نفسياً ومعنوياً وإجتماعياً من خلال نزهات كانوا يقومون ‏بها أواخر شهر شعبان،(غالباً ما يكون آخر يوم أحد قبل حلول الشهر الفضيل)، ليودّعوا حياتهم ‏المعتادة بكل مباهجها ومسراتها وسرورها، ويتحضروا للدخول في شهر رمضان والإنصراف ‏خلاله للتعبد والصيام والقيام.‏

فكان الناس يخرجون آخر يوم عطلة أسبوعية من شهر شعبان إلى الحقول والبساتين والمنتزهات ‏مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم، لا سيما المناطق الحرجية البعيدة عن بيروت ذات الطبيعة ‏الخلابة للتفيؤ بظلال الأشجار المعمرة، وبجانب الأنهر والشلالات وأعين المياه، فيعدون ‏‏"التبولة" ويشوون اللحمة، ويقضون النهار في أكل ولهو ولعب وغناء، في شكل من أشكال ‏‏"السيران" كما كان يسميها البيارتة، التي باتت تعرف اليوم بـ "البيك نيك"، وذلك إشباعاً للنفس ‏ليتسنى لها الإخلاص في العبادة.‏

‏**‏

‏• الإحتفال بثبوت رؤية هلاله:‏

فور ثبوت رؤية هلال شهر رمضان المبارك من خلال بيان سماحة المفتي الذي يكون مترئساً ‏إجتماع علمائياً في بهو دار الفتوى لقضاة الشرع والمشايخ الإجلاء، وإطلاق المدفعية ٢١ طلقة، ‏إبلاغاً وإعلاماً للناس بأنه قد ثبت بالوجه الشرعي ولادة هلال شهر الصيام...‏

وما أن يعلن ثبوت شهر رمضان حتى كانت تعم الفرحة العارعة، ويتبادل الأهل والأقارب ‏والجيران والأصدقاء التهاني بالضيف المنتظر بلهفة، وتنطلق الفرق والأفواج الكشفية بمسيرات ‏استقبال للشهر الكريم، التي كانت تطوف أحياء العاصمة تتقدمهم حملة الأعلام والمشاعل ‏المضيئة ويرتدي أفرادها الزيّ الكشفي الموحّد على وقع الخطوات المنتظمة. وكان الأهالي ‏ينثرون عليهم الزهور والأرزّ وماء الزهر والورد. وفيما بعد أصبحت المسيرات الكشفية أكثر ‏رونقاً وبهجة في نفوس الأهالي، بعدما صارت تصاحبها الفرق الموسيقية، فتمتزج مشاعر ‏الغبطة بقدوم شهر رمضان بين مختلف شرائح الناس في واحدة من أبرز المظاهر الاحتفالية التي ‏كانت تتكرر كل سنة مع إطلالة شهر الخير والبركة.‏

من العادات والتقاليد التي جرى عليها الناس إحتفالاً بشهر رمضان المبارك في بيروت ظاهرة ‏إطلاق الأسهم النارية وإستخدام المفرقعات، تعبيراً عن سعادتهم وبهجتهم برمضان وللفت ‏الأنظار بإحتفالهم به على طريقتهم الخاصة ولإعطائه نكهة وخصوصية تميزه عن باقي أيام ‏السنة.‏

‏**‏

وكان "المسحراتي" الظاهرة الرمضانية الأبرز في مختلف أحياء ومناطق بيروت، إذ كان جزءاً ‏أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له. ‏

فما أن يهل هلال رمضان حتى يتطوّع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، ‏شرط أن يتمتع بالمواصفات التي تؤهله لهذه المهمة، لأنه كان يجب أن يكون ذا ثقة عند الناس ‏وحسن السمعة وأن يتمتع بصوت جميل وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير وأن يعرف كل سكان ‏المحلة التي يجول فيها.‏

فالليلة الأولى من رمضان، يرتدي زياً خاصاً، ويجول في الشوارع ضارباً على طبلته بقضيب ‏من "الخيزران" ومرسلاً صوته الشجي بأناشيد دينية ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول ‏طعام السحور، قبل الإمساك بحوالي ساعتين، وكان "المسحر" في بيروت يعرف كل سكان ‏الحي، لذلك فأنه في جولاته كان ينادي كل صاحب دار باسمه أو بكنيته "يا أبا فلان" فإذا أجابه ‏قال له: وحد الله. وكان الأطفال يقفون خلف النوافذ أو على الشرفات ويقذفون له الحلوى، ‏لينادي عليهم بأسمائهم.‏

وكان "المسحراتي" بين الحين والآخر، يقف لينشد مديحاً في رسولنا الكريم بلحن شجي، أو ‏إبتهالاً دينياً يُسبّح فيه الله ويمجده بصوت رخيم يفيض محبة وتقوى، فتسمع مناجاته في كل ‏منزل، بعد أن تكون قد شقت السكون المخيم، فيضفي على ليالي رمضان أجواء من الكسينة ‏تمتزج فيها الرهبة والخشوع بالسعادة والفرح.‏

كذلك، جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي ‏عبارة عن مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق ‏أصواتهم سكون الليل، لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء.‏

‏**‏

‏•الإفطار الأول عند كبير العائلة:‏

درجت العادة قديماً أن يكون إفطار أول يوم من رمضان عند كبير العائلة، على سبيل الإحترام ‏والتقدير له ولمكانته، فيتجمع الأبناء والأحفاد في جو من الألفة العائلية، التي كانت تسمى "اللمة"، ‏أي الجَمعة، لأن كبير العائلة "يَلِم" كل أفرادها، فتكون مأدبة الأفطار مميزة بغنى مأكولاتها ‏ووفرة أصنافها، مع إعتماد الأطعمة ذات المذاق الشهي.‏

ومن الأطباق الرمضانية التي لا تغيب عن مآدب الإفطار هي المقبلات التي تعرف أيضاً بفواتح ‏الشهية، التي تهيئ الصائم على تناول الوجبة الأساسية. ومن أبرز أصناف المقبلات الأساسية ‏التي تحضر بشكل يومي هلى الإفطار "الفتوش" و"شوربة العدس"، في حين يكون في الأغلب ‏الطبق الرئيسي في أول يوم من رمضان "الأرز باللحم"، إذ إكتسب طبق الأرز باللحم أو الدجاج ‏منذ زمن بعيد أهمية خاصة في الوجدان البيروتي، كونه يرتبط بالمناسبات والأعياد، لأنه كان ‏غالي الكلفة، على إعتبار أن الأرز كان مادة نادرة ومستوردة، في حين أن البرغل كان متوفراً ‏وبكلفة زهيدة لذلك كان معتمداً في تحضير أغلب الأكلات اللبنانية. ومن هنا جاء المثل الشعبي: ‏‏"العز للرز والبرغل شنق حالو".‏

هذا ما جعل طبق الأرز باللحم أو الدجاج من الأصناف المميزة على المائدة الرمضانية، إذ ‏تحرص الأمهات والزوجات على إعتباره طبقاً رئيسياً خلال الشهر الكريم، حيث يعمدن إلى ‏تزيينه بالمكسرات والزبيب وحب الهال، لإضافة نكهة مكملة لمذاقه الطيب والشهي.‏

وهنا، يجب أن لا ننسى أن المشروبات الرمضانية (الجلاب، العرقسرس، القمر الدين، التمر ‏الهندي) لا تغيب طيلة الشهر. وهذا ما ينسحب أيضاً على الحلويات الرمضانية وفي مقدمها ‏الصنفين اللذين لا يصنعان عند "الحلونجية" إلا في رمضان، وهما "الحدف" و"الكلاج"، إضافة ‏إلى القطايف والحلوى المصنوعة بالقشطة...‏

‏**‏

هكذا كانت بيروت زمن الخير والبركة، تتحضير وتتهيأ وتستقبل شهر الصيام، وتحتفي به بكل ‏فرح وسرور، وتعيش أجواءه الروحانية الممزوجة بعبق الألفة والمحبة، التي للأسف بتنا ‏نفتقدها...‏

‏**‏

‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏