زياد سامي عيتاني*
ينتظر العالم بأسره، بكثير من الشوق والحنين، قدوم شهر رمضان المبارك، ليحل عليهم ضيفاً عزيزاً، ويُدخل البهجة والسكينة إلى قلوبهم، وخصوصاً انه يكتسب مذاقاً خاصاً، حيث تمتزج فيه الروحانيات والنورانيات مع عبق وقبس العادات والتقاليد والذكريات الرمضانية ذات الطابع التراثي...
ومدينة بيروت التي ترسّخت جذورها منذ القدم على الإيمان والتقوى والورع والتديّن، كانت تزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح ويغلب على أجوائها الطابع الرمضاني، وتستعد وتتحضر باكراً للشهر، حتى لما يحل تكون النفوس والأفئدة مهيأة له...
وقد كان لشهر رمضان المبارك تقاليد وعادات دينية واجتماعية متعددة، متوارثة من جيل إلى جيل، حتى أصبحت هذه التقاليد والعادات جزءاً من المظاهر المحببة والمألوفة التي ارتبطت بتاريخ بيروت وتراثها الشعبي...
لذلك، كان يُستقبل شهر رمضان المعظّم في بيروت، إسوة بكافة البلدان والمدن العربية والإسلامية بحلة زاهية، وتُقام له الإحتفالات إبتهاجاً وترحيباً...
**
•تزيين وإضاءة المساجد والأحياء:
إذن، كانت بيروت تستقبل قدوم شهر رمضان الفضيل بحلّة زاهية فتزدان شوارعها وزواياها، وتضاء فيها المصابيح وتشعّ أنوار مساجدها ترحيباً واحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة، حتى كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع، مما يُدهش الناظر ويسر الخاطر، وتُصبح ليالي شهر النور بالضياء باهرة وبالعطور ساحرة، مثل النجوم الساطعة في السماء الصافية، فيصبح ليلها الرمضاني مشعاً متلألئاً كالقمر المكتمل ليلة التمام...
كما كانت تتزيّن الساحات العامة والأحياء بالأعلام والأضواء وسعف النخيل الأخضر، وتنصبّ على مدخل دار الإفتاء وأبواب المساجد أقواس النصر، وترفع يافطات الترحيب برمضان والمتضمنة بعض الآيات القرآنية الكريمة من وحي المناسبة.
وكانت تعتمد زينة رمضان على الأضواء بشكل كبير، بالإضافة للأشكال الجمالية التي كانت إحدى الطقوس الشعبية في الاحتفال بشهر رمضان المبارك. فكان أحد أبرز أشكال الزينة الاحتفال بشهر رمضان هو تزيين الشوارع والمساجد بسلاسل "اللمبات" المضيئة والتي تضم الكثير من الألوان والحركات الضوئية التي تمتد لمئات الأمتار، وتمتد من منزل لآخر ومن شارع لشارع.
كذلك كانت تأتي زينة رمضان في شكل أوراق ملونة ومليئة بالزخرفة حيث تمتد بين البيوت، وتأخذ أشكال الأهلة والنجوم والفوانيس.
وفي ظاهرة لافتة تعبر عن التعاضد بين أبناء "الحي"، حيث كان يتشارك الأهالي بشكل كبير في تحضير زينة رمضان وتركيبها كإحدى أشكال التعاون المعروفة في الشارع البيروتي، إذ كانوا يتداعون فيما بينهم قبل بضعة أيام من رمضان، ويتطوعون لشراء الزينات من مالهم الخاص ومن دعم المتبرعين، ثم يسارعون إلى تحضيرها وإعدادها لتصبح جاهزة للتعليق، فينقسون إلى مجموعات، منهم من يتسلق السلالم الخشبية، ومنهم من يصعد إلى شرفات المنازل، لتركيب وتعليق الزينات، وسط حالة من الفروح والسرور والتعاون كانت تعم أهالي وأبناء المنطقة الواحدة.
**
•مونة رمضان:
كان البيروتيون يحرصون قبل حلول الشهر الكريم إلى تموين منازلهم بكل ما يحتاجونهم للشهر، حيث كانوا يطلقون عليها تسمية "مونة رمضان"، فيقصدون أسواق "المدينة"، التي يسمونها "البلد"، لا سيما "المعرض" وسوق "أبو النصر" للتبضع وشراء الأرز والسكر والعدس والفول والحمص والبقوليات، والبهارات على أنواعها، والسمن البلدي، والقلوبات، والفواكة المجففة و"القمر الدين"، والقطايف والأجبان والحلاوة والطحينة.. وبعضهم كان يقصد سوق "الزجاج" والمحلات المنتشرة في ساحة "البرج" لتجديد الأواني المطبخية والصحون والكبايات وباقي مستلزمات "سفرة" رمضان كنوع من الإحتفاء بالشهر الكريم.. أما اللحوم والدجاج والفاكهة والخضار (لاسيما "عدة الفتوش"، فكانوا حريصين على شرائها يوماً بيوم طازجة من "درج خان البيض" وسوق "اللحامين" وسوق "النورية، حيث كانت تشهد تلك الأسوق خلال رمضان والأيام التي تسبقه زحمة غير مسبوقة تزداد على الزحمة المعهودة فيها، حتى تكاد أن لا تجد موطئ قدم، وسط "عجة" البياعين والناس "عتالي السل" المقرونة بزحمة سيارات الإجرة (السرفيس) و"الأوتوبيسات" (جحش الدولة)...
فما أن يطل رمضان تكون البيوت قد تهيأت وتجهزت بمونته وكل مستلزماته.
**
•"سيبانة" رمضان:
إعتاد البيارتة كذلك التحضر لرمضان نفسياً ومعنوياً وإجتماعياً من خلال نزهات كانوا يقومون بها أواخر شهر شعبان،(غالباً ما يكون آخر يوم أحد قبل حلول الشهر الفضيل)، ليودّعوا حياتهم المعتادة بكل مباهجها ومسراتها وسرورها، ويتحضروا للدخول في شهر رمضان والإنصراف خلاله للتعبد والصيام والقيام.
فكان الناس يخرجون آخر يوم عطلة أسبوعية من شهر شعبان إلى الحقول والبساتين والمنتزهات مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم، لا سيما المناطق الحرجية البعيدة عن بيروت ذات الطبيعة الخلابة للتفيؤ بظلال الأشجار المعمرة، وبجانب الأنهر والشلالات وأعين المياه، فيعدون "التبولة" ويشوون اللحمة، ويقضون النهار في أكل ولهو ولعب وغناء، في شكل من أشكال "السيران" كما كان يسميها البيارتة، التي باتت تعرف اليوم بـ "البيك نيك"، وذلك إشباعاً للنفس ليتسنى لها الإخلاص في العبادة.
**
• الإحتفال بثبوت رؤية هلاله:
فور ثبوت رؤية هلال شهر رمضان المبارك من خلال بيان سماحة المفتي الذي يكون مترئساً إجتماع علمائياً في بهو دار الفتوى لقضاة الشرع والمشايخ الإجلاء، وإطلاق المدفعية ٢١ طلقة، إبلاغاً وإعلاماً للناس بأنه قد ثبت بالوجه الشرعي ولادة هلال شهر الصيام...
وما أن يعلن ثبوت شهر رمضان حتى كانت تعم الفرحة العارعة، ويتبادل الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء التهاني بالضيف المنتظر بلهفة، وتنطلق الفرق والأفواج الكشفية بمسيرات استقبال للشهر الكريم، التي كانت تطوف أحياء العاصمة تتقدمهم حملة الأعلام والمشاعل المضيئة ويرتدي أفرادها الزيّ الكشفي الموحّد على وقع الخطوات المنتظمة. وكان الأهالي ينثرون عليهم الزهور والأرزّ وماء الزهر والورد. وفيما بعد أصبحت المسيرات الكشفية أكثر رونقاً وبهجة في نفوس الأهالي، بعدما صارت تصاحبها الفرق الموسيقية، فتمتزج مشاعر الغبطة بقدوم شهر رمضان بين مختلف شرائح الناس في واحدة من أبرز المظاهر الاحتفالية التي كانت تتكرر كل سنة مع إطلالة شهر الخير والبركة.
من العادات والتقاليد التي جرى عليها الناس إحتفالاً بشهر رمضان المبارك في بيروت ظاهرة إطلاق الأسهم النارية وإستخدام المفرقعات، تعبيراً عن سعادتهم وبهجتهم برمضان وللفت الأنظار بإحتفالهم به على طريقتهم الخاصة ولإعطائه نكهة وخصوصية تميزه عن باقي أيام السنة.
**
وكان "المسحراتي" الظاهرة الرمضانية الأبرز في مختلف أحياء ومناطق بيروت، إذ كان جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له.
فما أن يهل هلال رمضان حتى يتطوّع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، شرط أن يتمتع بالمواصفات التي تؤهله لهذه المهمة، لأنه كان يجب أن يكون ذا ثقة عند الناس وحسن السمعة وأن يتمتع بصوت جميل وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير وأن يعرف كل سكان المحلة التي يجول فيها.
فالليلة الأولى من رمضان، يرتدي زياً خاصاً، ويجول في الشوارع ضارباً على طبلته بقضيب من "الخيزران" ومرسلاً صوته الشجي بأناشيد دينية ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول طعام السحور، قبل الإمساك بحوالي ساعتين، وكان "المسحر" في بيروت يعرف كل سكان الحي، لذلك فأنه في جولاته كان ينادي كل صاحب دار باسمه أو بكنيته "يا أبا فلان" فإذا أجابه قال له: وحد الله. وكان الأطفال يقفون خلف النوافذ أو على الشرفات ويقذفون له الحلوى، لينادي عليهم بأسمائهم.
وكان "المسحراتي" بين الحين والآخر، يقف لينشد مديحاً في رسولنا الكريم بلحن شجي، أو إبتهالاً دينياً يُسبّح فيه الله ويمجده بصوت رخيم يفيض محبة وتقوى، فتسمع مناجاته في كل منزل، بعد أن تكون قد شقت السكون المخيم، فيضفي على ليالي رمضان أجواء من الكسينة تمتزج فيها الرهبة والخشوع بالسعادة والفرح.
كذلك، جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي عبارة عن مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم سكون الليل، لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء.
**
•الإفطار الأول عند كبير العائلة:
درجت العادة قديماً أن يكون إفطار أول يوم من رمضان عند كبير العائلة، على سبيل الإحترام والتقدير له ولمكانته، فيتجمع الأبناء والأحفاد في جو من الألفة العائلية، التي كانت تسمى "اللمة"، أي الجَمعة، لأن كبير العائلة "يَلِم" كل أفرادها، فتكون مأدبة الأفطار مميزة بغنى مأكولاتها ووفرة أصنافها، مع إعتماد الأطعمة ذات المذاق الشهي.
ومن الأطباق الرمضانية التي لا تغيب عن مآدب الإفطار هي المقبلات التي تعرف أيضاً بفواتح الشهية، التي تهيئ الصائم على تناول الوجبة الأساسية. ومن أبرز أصناف المقبلات الأساسية التي تحضر بشكل يومي هلى الإفطار "الفتوش" و"شوربة العدس"، في حين يكون في الأغلب الطبق الرئيسي في أول يوم من رمضان "الأرز باللحم"، إذ إكتسب طبق الأرز باللحم أو الدجاج منذ زمن بعيد أهمية خاصة في الوجدان البيروتي، كونه يرتبط بالمناسبات والأعياد، لأنه كان غالي الكلفة، على إعتبار أن الأرز كان مادة نادرة ومستوردة، في حين أن البرغل كان متوفراً وبكلفة زهيدة لذلك كان معتمداً في تحضير أغلب الأكلات اللبنانية. ومن هنا جاء المثل الشعبي: "العز للرز والبرغل شنق حالو".
هذا ما جعل طبق الأرز باللحم أو الدجاج من الأصناف المميزة على المائدة الرمضانية، إذ تحرص الأمهات والزوجات على إعتباره طبقاً رئيسياً خلال الشهر الكريم، حيث يعمدن إلى تزيينه بالمكسرات والزبيب وحب الهال، لإضافة نكهة مكملة لمذاقه الطيب والشهي.
وهنا، يجب أن لا ننسى أن المشروبات الرمضانية (الجلاب، العرقسرس، القمر الدين، التمر الهندي) لا تغيب طيلة الشهر. وهذا ما ينسحب أيضاً على الحلويات الرمضانية وفي مقدمها الصنفين اللذين لا يصنعان عند "الحلونجية" إلا في رمضان، وهما "الحدف" و"الكلاج"، إضافة إلى القطايف والحلوى المصنوعة بالقشطة...
**
هكذا كانت بيروت زمن الخير والبركة، تتحضير وتتهيأ وتستقبل شهر الصيام، وتحتفي به بكل فرح وسرور، وتعيش أجواءه الروحانية الممزوجة بعبق الألفة والمحبة، التي للأسف بتنا نفتقدها...
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.