زياد سامي عيتاني*
إذا جرت العادة عند المسلمين أن يحتفلوا باستقبال شهر رمضان المبارك بالحفاوة والتكريم وإقامة مظاهر الفرح والسرور للتعبير عن ترحيبهم بإطلالته بعد طول شوق وانتظار، فقد جرت العادة في المقابل، أن يودعوه بالحفاوة والتكريم نفسهما في العشر الأخيرة إنما بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله. فالعشر الأخيرة من رمضان كان يسمى "أيام التوحيش"، وكلمة التوحيش من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان.
وكانت فترة "توحيش" رمضان (العشر الأواخر تتميز بالإجتهاد في العبادات، سيما وأن في العشر الأخير من رمضان تكون ليلة القدر المباركة، وذلك تقرباً من المولى، وطمعاً ببركاتها التي لا تعد ولا تحصى...
وتعتبر عادة "التوحيش" عادة قديمة تختلف من بلد لآخر، ولكنها تجتمع في كونها صورة من صور إظهار الحزن والأسى على فراق شهر رمضان.
•عادات المكيين:
في الحرم المكي الشريف كان يحتفل بالعشر الأواخر من رمضان المعظم، كان يُختَم القرآن الكريم في كل وتر في الليالي العشر الأواخر بحضور القاضي والفقهاء.
ويشير ابن جبير في رحلته "اجتهاد المجاورين للحرم الشريف" الى ليلة إحدى وعشرين بقوله: ..."فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما".
ثم يتطرق الى ليلة ثلاث وعشرين فيقول: "وكان المُختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثرياً مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسُمّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرز".
•عادات المصريين:
ومن العادات التي جرت في مصر توديعاً لشهر رمضان أداء صلاة آخر جمعة من شهر الصيام "الجمعة اليتيمة" في جامع عمرو بن العاص، علماً أن المسجد المذكور بقي معطلاً نحو مئة سنة، لكن الناس كانوا يقصدونه يوم الجمعة الأخيرة من رمضان للصلاة والتبرك.
**
•لا أوحشَ الله منك يا رمضان؟:
كذلك كان يقترن "توحيش رمضان" بإطلاق المؤذنين ومن على مآذن ومنازات الجوامع، وكذلك "المسحراتيون" أناشيد توديع رمضان، التي تحمل في ملماتها ونغماتها الشجن والحزن على قرب إنقضاء الشهر الكريم...
فقد اعتاد مؤذنو المساجد والجوامع في الأيام الأواخر من شهر رمضان الكريم، أنْ يودعوه بكلمات ذات نبرات مؤسية، ونغم حزين، لها وقعها على آذان السامعين، حيث يكون الضيف الكريم قد جهزّ نفسه ليودعنا بعد أن حلّ بين ظهرانينا حاملاً معه الخير والعطاء، والأجر والثواب وهو أكرم الشهور، شهر الله وشهر القرآن المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام. وقد رددّ المؤذنون من المأثور عن الوداع- التوحيش- قائلين:
لا أوحشَ الله منك يا رمضان؟
لا أوحشَ الله منك ياشهر القرآن
لا أوحشَ الله منك ياشهر الصيام
لا أوحشَ الله منك ياشهر القيام
لا أوحشَ الله منك ياشهر الكرم والجود
لا أوحشَ الله منك ياشهر الولائم
لا أوحشَ الله منك ياشهر العزائم…
وقال الخوارزمي في معنى: "لا أوحش الله منك"، أي لا أذهبك الله، فتوحش أحباءك من جانبك بالفراق.
ومنه قول الشاعر الأبله البغدادي:
مذ قيل قِد قدم الهمام
أسرى إلى جفني المنامُ
من بعد ما كانت دموع
العين أربعة سجامُ
شوقا إلى وجه له
كالبدر طاف به التمامُ
وخلائق كالزهر
راض رياضة سحرا غمامُ
يا من نداه لا يغب
ب ومن عطاياه جسامُ
ما دام جود يديك
موجودا فما مات الكرامُ
لا أوحشت دار السلام
من ارتياحك والسلامُ
**
•الحامولي "يوحش" من مأذنة "سيدنا الحسين":
نشير إلى أن الفنان عبده الحامولي حريصا عقب آذان العشاء أن يصعد إلى منارة جامع مولانا الحسين وينشد من التسابيح والتواحيش، إذ كانت العادة قد جرت في ذلك الزمان ان تؤدي من أعلي مآذن القاهرة، فكانت الساحة الممتدة أمام الجامع والمشربيات والشرفات تحتشد بالناس، مستمتعين بفن الحامولي وصوته الفريد ينساب الي المسامع بكل الوقار.
**
•المسحراتيون:
ولا يقوم بهذا التوحيش المنشدون المحترفون فحسب، بل يلجأ المسحراتي إلى تغيير موضوعات أدائه أثناء جولاته إلى التوحيش، كما يملأ المؤذنون المنشدون فضاء الحي بتوحيشهم الذي يواصلونه من الإمساك حتى آذان الفجر. ولهذا صار التوحيش وأساليب إنشاده مجالاً للتجويد والتنويع والتنمية سواء في نظم عباراته أو في موسيقى أدائه. وصار أحد مجالات التقاطع الذي تلتقي فيه الثقافة الشعبية بالثقافة الرسمية.
وأبرز مظاهر ذلك الالتقاء أن معظم المنظومات التي تتردد في التوحيش كانت من الشعر الفصيح، كما أن موسيقى أدائها تتأسس على تقاليد الموسيقى العربية التقليدية.
ومن تلك الأناشيد:
شهر الصيام مفضل تفضيلا،
نويت من بعد المقام الرحيلا،
قد كنت شهراً طيباً ومباركاً،
ومبشراً بالعفو من مولانا،
بالله يا شهر الهنا ما تنسانا،
لا أوحش الرحمن منك...
**
•الأطفال يودعون رمضان أيضاً:
كذلك فإن للأطفال طقوسهم البريئة والمحببة في "توحيش" رمضان، حيث كانوا يطوفون الشوارع منشدين:
يا رمضان يا بو صحن نحاس / يا داير في بلاد الناس/ سقت عليك أبو العباس / تخليك عندنا الليلة.
كما ينعونه بمزيد من الأسى قائلين :
يا رمضان يا ابن الحاجة / يا ميت على المخدة/ يا رمضان يا ابن عيشة / يا ميت على العريشة.
**
•أمنية مسحراتي تتحقق بقيام الثورة:
ففي الختام وعلى سبيل الطرفة نورد الواقعة التالية التي حصلت في 20 تموز 1952 في القاهرة حيث اجتمع اربعة زملاء من المسحراتية تبدو عليهم علامات الفاقة والحرمان، وجلسوا يستعدون لوداع رمضان ويتحسرون على أيام زمان أيام الخير والجنيهات الذهب، وفوجئوا بمحرر صحفي جاءهم من مجلة الاثنين دون موعد ليسألهم عن دعواتهم وأمانيهم في ليلة القدر فقال الأول: طالب من الله ولا يكتر على الله أن أكون مسحراتي في الزمالك أو جاردن سيتي عند الناس الهاي لايف، وقال الثاني: أطلب من الله أن أسافر في العام القادم إلى الإسكندرية لتسحير أولاد الذوات الذين يقضون رمضان في المصيف وعلى البلاج واهو منها أصيف ومنها أسترزق. وقال الثالث: نفسي في كحك وبسكويت ثم غني: الكحك ده بيني وبينه.. من زمان حب وغرام.. والبسكويت ده من سنة.. طيفه يزورني في المنام.. والعين جمل هو الأمل.. واللوز بقشره أو مقشر.. الله يزيد المحسنين.. من نعمته أكتر وأكتر.. وقال الرابع: أدعو الله أن يتساوى الغلابة اللي زينا بالباشوات والبهوات بلدنا.. ويبدو أن الأخير كانت دعوته مستجابة فبعد حوالي شهر قامت ثورة 23 يوليو وقد نشرت هذه الصورة في مجلة الاثنين عدد ينونيو 1952.
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.