أخبار لبنان

لا المقاومةُ نَصَرتْه ولا أنصَفه السلامُ

تم النشر في 20 أيار 2021 | 00:00


سجعان قزي



نحن في القرنِ الحادي والعشرين. تَغيّر مفهومُ الانتصارِ والهزيمة. ما عادت ‏السيطرةُ تُبرِّرُ حربًا، ولا التنازلُ يُبرِّرُ سلامًا. لا قيمةَ لأيِّ نضالٍ خارجَ خيرِ ‏الإنسانِ وأمنِه ورفاهيّتِه وتَقدُّمِه الحضاريّ، ولا قيمةَ لأيِّ انتصارٍ على حسابِ ‏الحياةِ والأطفالِ والأخلاقِ والمبادئ. هناك انتصاراتٌ تُشبِه الهزائم، وهزائمُ تحاكي ‏الانتصارات. هي هذه حكايةُ الصراعِ الفِلسطينيِّ/الإسرائيليّ. يَصعُبُ على الشعبِ ‏الفِلسطينيِّ أن يحيا في الهزيمةِ، ويَتعذّرُ على الشعبِ اليهوديِّ أن يحيا في الانتصار. ‏وحدَه الحقُّ، بل وحدَها العدالةُ الإنسانيّةُ تَضمَنُ نهايةَ الحروبِ وبدايةَ السلام بين ‏البشر. الانفجارُ الجديدُ الذي نَشب بين إسرائيل والفِلسطينيّين في 07 أيار 2021 ‏أبعدُ من الخلافِ على الصلاةِ في باحةِ المسجِد الأقصى. إنّه يَحمِل في عمقِه هذه ‏المشاعرَ والمفاهيمَ ونقيضَها.‏

في التفسيرِ الوطني، انتفاضةُ أورشليم وغزّة فَجّرها غضبٌ فِلسطينيٌّ دفينٌ وقهرٌ ‏عتيقٌ عمرُه سبعون سنة. منذ 1948 والغضبُ والقهرُ يَكبُران ويَتفجَّران بأشكالٍ ‏شتّى في أمكنةٍ مختلِفةٍ، وأحيانًا في غيرِ الساحةِ الصحيحة... لا تستطيعُ إسرائيلُ ‏دعوةَ الفِلسطينيّين إلى مفاوضاتِ سلامٍ فيما تَستكْمِلُ القضاءَ على آخِرِ معالمِ ‏وجودِهم. ما تَركت إسرائيلُ للفِلسطينيّين سوى الحجرِ والبندقيّةِ و"الله أكبر" و"يا ‏يسوعَ المسيح". احتلّت فِلسطين. توسّعت في الضِفّةِ الغربيّة. ضَمَّت كلَّ أورشليم ‏و"طَوَّبتْها" عاصمةً لها. أَلغَت حلَّ الدولتَين. أعلنت دولةَ إسرائيل يهوديّةً قوميّة. ‏صَنَّفت المواطنين الفِلسطينيّين فيها درجةً ثانية. زادَت عددَ المستوطَناتِ في الضِفّةِ ‏وعَمَّمت عليها القانونَ المدنيَّ الإسرائيليّ. واصَلت تهجيرَ الفِلسطينيّين المقيمين ‏بالألوف. رَفضَت حقَّ عودةِ فِلسطينيّي الشَتات. وتَتحضّرُ لضَمِّ أجزاءَ إضافيّةٍ من ‏الضِفّةِ الغربيّةِ (ثُلُث غَوْرِ الأردن). لو كان الشعبُ الفِلسطينيُّ حَجرًا لتَحوّلَ ثائرًا، ‏فكيف وهو إنسانٌ ثائرٌ أصلًا ويُحسِنُ رميَ الحجَر و... الصاروخ.‏

في التفسيرِ الإقليميّ: انتفاضةُ أورشليم وغزّة تلبّي وعدَ إيران بالانتقامِ دُفعةً واحدةً ‏من مجموعةِ ضرباتٍ إسرائيليّةٍ نالت مِن هيبتِها وهيمنتِها وأبرزُها: "سَرِقةُ" خرائطِ ‏البرنامجِ النوويِّ الإيرانيّ. الهجومُ الإلكترونيُّ على مفاعِلِ نَطَنْز النوويّ. اغتيالُ ‏العالِـمِ النوويِّ محسن فخري زاده وعددٍ من العلماءِ وقادةِ الحرسِ الثوريِّ وحزبِ ‏الله. تَفخيخُ سفينةٍ إيرانيّةٍ في البحرِ المتوسّط. قصفُ قوّاتِـها المنتَظِمُ في سوريا. ‏هكذا، جاء الردُّ "صادقًا" من خلالِ أطفالِ فِلسطين. فمنظمةُ حَماس، عدا أنّها ‏صاحبةُ قضيّةٍ وطنيّةٍ، تُنسِّقُ عسكريًّا مع إيران التي تُزوِّدُها بالمالِ والسلاحِ ‏والصواريخ. لقد صادرت إيرانُ القضيّةَ الفِلسطينيّةَ من دونِ عَناءٍ. ووظّفتْها في ‏توسيعِ دورِها في العالمِ الإسلاميِّ، السُنّيِ تحديدًا، بمنأى عن مدى منفعةِ هذه ‏المصادرة، بل المزايدةِ، على الشعبِ الفِلسطينيّ والعرب. فالمسؤولون الإيرانيّون ‏ينادون بدمارِ دولةِ إسرائيل، فيما الفِلسطينيّون والدولُ العربيّةُ يَعقِدون معها اتفاقاتِ ‏سلامٍ وتطبيع. ورغمَ كلِّ ما يَحصُل في غزّة، لم تُعلِّق أيُّ دولةٍ عربيّةٍ علاقاتِها مع ‏إسرائيل. ولا ننسى أنَّ إيران ـــ حتّى اندلاعِ الثورةِ الخُمينيّة ـــ كانت السبّاقةَ إلى ‏إقامةِ أفضلِ العَلاقاتِ مع إسرائيل.‏

في التفسيرِ السياسيّ: تقضي الموضوعيّةُ الاعترافَ بأنَّ منظّمةَ حماس نَجحت ـــ ‏حتّى الآن ـــ في تحقيقِ عددٍ من النقاطِ: هزُّ شعورِ شعبِ إسرائيل بالأمنِ في ‏مجتمعِه. إشعالُ فتيلِ الحربِ الأهليّةِ بين اليهودِ وفِلسطينيّي 1948. توحيدُ ‏الفِلسطينيّين في انتفاضةٍ جديدة. نَقلُ ثِقلِ القرارِ الفِلسطينيّ من السلطةِ الفِلسطينيّة في ‏رام الله إليها في غزة. تجميدُ تنفيذِ الجُزءِ الفِلسطينيِّ من "صفقةَ العصر". إحياءٌ ‏نظريٌّ لحلِّ الدولتين. إحراجُ دولِ التطبيع. وإعادةُ القضيّةِ الفِلسطينيّةِ إلى الصدارة: ‏فَها أميركا تُرسل موفدًا خاصًّا إلى فِلسطين، ومجلسُ الأمنِ الدوليُّ يَنعقدُ، ووزراءُ ‏الخارجيّةِ العرب يَجتمعون ويَخطُبون، والإعلامُ الدوليُّ يتعاطفُ عمومًا مع شعبِ ‏فلسطين، والمسيراتُ تَنطلق في العالمِ العربيِّ وأوروبا وأميركا تُندِّدُ بالقصف ‏الإسرائيليّ. غيرَ أنَّ هذه الإنجازاتِ تبقى عُرْضةً للتعديلِ ورهنَ مصيرِ حركةِ ‏حماس وتَصرّفِها بعد انتهاءِ القتال وكيفيّةِ انتهائه. فتَكلفةُ صمودِ حماس عسكريًّا، ‏وانتصارِها معنويًّا وسياسيًّا عاليةٌ جدًّا، إِذ إنَّ الضحايا بالمئاتِ والمصابين بالألوفِ ‏والدمارَ الشامِلَ يَعُمُّ غزّة وبلْداتٍ فِلسطينيّةً أخرى. فمَن يُعوِّضُ الضحايا والشهداء ‏ومَن يُعيدُ البناء؟ وأين ستُوَظَّفُ نتائجُ الحرب؟ بموازاةِ ذلك، يَبرُز واقعٌ مقلقٌ هو ‏تقدُّمُ قوِى الإسلامِ السياسيِّ المتطرِّفِ في الساحةِ الفِلسطينيّةِ على حسابِ القِوى ‏المدنيّة والمعتدلِة، واحتمالُ انعكاسِ ذلك قريبًا على المجتمعاتِ العربيّةِ، بما فيها ‏لبنان. وما يَزيدُ القلقَ أنَّ هذه القوِى متحالِفةٌ مع إيران وتركيا، لا مع الدولِ العربيّةِ ‏الحاضنةِ الإسلامَ الوطنيَّ والمعتدِل. لذلك، ما حَدَث في غزّة من شأنه أن يؤخِّرَ ‏حسمَ مفاوضاتِ الاتّفاقِ النوويِّ في ڤيينا، ويُسرِّعَ بالمقابل جهودَ الغربِ وروسيا ‏للحدِّ من انتشارِ إيران في سوريا ودولِ المشرِق.‏

في التفسير اللبناني: أحداثُ الأراضي الفِلسطينيّةِ لم تؤدِّ ـــ حتّى الآن ـــ إلى انفجارٍ ‏عسكريٍّ واسعٍ على الحدودِ اللبنانيّةِ/الإسرائيليّة، لكنها كَشفَت خَللَ بعضِ المجتمعاتِ ‏اللبنانيّةِ حيث لا تزالُ فئاتٌ تعيش في منطقِ سبعيناتِ القرنِ الماضي، لا بل في ‏أجواءِ "اتّفاقِ القاهرة" سنةَ 1969. هكذا، طَلعَت علينا جماعاتٌ ناشطةٌ في بيئات ‏لبنانيّةٍ وفي المخيمات الفِلسطينية، مستعدّةٌ، عقائديًّا ودينيًّا، للتضحيّةِ بأمنِ لبنان ـــ ‏يا ليتَ من أجلِ فلسطين ـــ إنّما من أجلِ بعضِ دولِ المنطقة. تمكّنَ الجيشُ اللبنانيُّ ‏‏(أين القوّاتُ الدوليّة؟) من مَنعِ تحويلِ لبنانَ مِنصّةَ صواريخَ تُطيحُ اتفاقَ الهُدّنةِ ‏والقرارَ 1701. لكنَّ ردعَ هذه الجماعاتِ سلميًّا يبقى ممكنًا طالما لا يوجدُ قرارٌ ‏سياسيٌّ لدى حزبِ الله والمنظّماتِ الفِلسطينيّةِ بالمشاركةِ في المعركة (من يَضمَنُ ‏استمرارَ هذا القرار؟) ما يعني أنَّ أمنَ لبنان هشٌّ ومكشوفٌ. إذا كان بعضُ ‏اللبنانيّين يَحِنُّون إلى السبعينات الماضية، فالآخَرون، ونحن منهم، يرفضون العودةَ ‏إلى ما قبلَ 1975 و 1982، وحتى إلى ما قبل 2006.‏

تجاه هذه التطوّرات، تبدو الدعوةُ إلى مؤتمرٍ دُوَليٍّ يُعلن حِيادَ لبنان الجَبهةَ الوحيدةَ ‏التي يجبُ أن نَفتحَها لإقفالِ الجَبهاتِ التي تُهدِّدُ وِحدةَ لبنان وأمنَ اللبنانيّين. لقد ‏رفضنا أن يكونَ لبنانُ إسرائيلَ أخرى، فلا تَجعلوه فِلسطين أخرى...‏

‏***‏