إقتصاد

‏"هجرة منظّمة" لـ 600 ممرّض وممرّضة إلى فرنسا

تم النشر في 2 آب 2021 | 00:00

بعد نزيف الأطباء الى الخارج جاء دور الجسم التمريضي الذي تستهدفه فرنسا ‏اليوم بشكل لافت مع فتح مجموعة ‏Elsan‏ بابها لتوظيف ستمئة ممرض وممرضة ‏لبنانية في مئة وسبعة وثلاثين مركزاً ومستشفى فرنسياً، وهي تنتظر تقديم الطلبات ‏بين السادس عشر والسابع والعشرين من آب.‏

بهذه الخطوة تثبت فرنسا أنها صديقة الشعب اللبناني تسعى لإنقاذه ومساعدته فعلاً ‏لا قولاً على عكس الدولة اللبنانية التي لم تحرّك ساكناً لمنع هجرة أدمغتها وكفاءاتها ‏تاركةً النقابات تتخبّط وحدها.‏

إيميه أيوب، ممرضة مجازة تعمل كمندوبة ممرضة، تتقاضى راتباً لا يتجاوز عتبة ‏المليوني ليرة لبنانية ما يدفعها الى البحث المتواصل وبإصرار عن فرص عمل ‏أفضل في الخارج فهي أم لثلاثة أولاد تعجز بالمشاركة مع زوجها عن تأمين أدنى ‏مقومات العيش الكريم واللائق لعائلتهما. وتسأل "كيف سنتمكّن من الصمود ونحن ‏نقبض رواتبنا على دولار 1500 ليرة بينما كل السلع الأساسية تسعّر على دولار ‏‏18000 ليرة وما فوق؟!".‏

قلبياً لا ترغب إيميه ولا زوجها بالمغادرة وترك الأهل والأقارب والأصدقاء في ‏وطنهما الأم، ولكن هناك مسؤولية أولادهما الثلاثة وهما لا يقبلان بالمساومة على ‏مستقبلهم من أجل وطن لا أمل فيه، ولو بعد مئة سنة تقول إيميه التي بدأت تقديم ‏أوراقها الى الولايات المتحدة الأميركية حيث لا يقلّ راتب الممرض المساعد هناك ‏عن أربعة آلاف دولار شهرياً فيما الممرض المجاز يتقاضى حوالى ستة آلاف ‏دولار، ما يشجّعها على الهجرة الى أميركا بالإضافة الى دوامات العمل المريحة ‏هناك،إذ أن ما ستتقاضاه يحتسب على الساعة.‏

بغصّة وحرقة تختم إيميه "أي بلد غير لبنان سيؤمّن لنا حياة أفضل... للأسف ‏أجبرونا على أن نفقد وطنيتنا".‏

بين مليون ومليون ونصف!‏

تبقى إيميه واحدة من آلاف الممرضين والممرضات الذين فقدوا الأمل ببلدهم وكانت ‏الهجرة وجهة خلاصهم. منذ عام 2019 سجّلت النقابة مغادرة ألف وستمائة ‏ممرض وممرضة من أصحاب الخبرات والكفاءات العالية في رقم مرشّح للازدياد ‏طالما الأزمة مفتوحة بحسب النقيبة ريما ساسين التي تعمل على وضع خطة ‏واضحة لتحسين شروط العمل من رواتب وتعزيز بيئة العمل بهدف وقف هذا ‏النزيف الى الخارج. وتؤكد ساسين لـ"نداء الوطن" أن على الممرضين ان يلمسوا ‏ان المسؤولين يقفون الى جانبهم وان النقابة بالتعاون مع وزارة الصحة تدعمهم ‏للصمود كي يبقى القطاع الصحي الذي نتغنّى به في لبنان بعافيته، كاشفة عن قيام ‏خبير مالي بدراسة الأرقام المتعلقة بالغلاء المعيشي وضغط العمل من أجل إعادة ‏هيكلة وتحديد الرواتب بما ينصف الممرضين والممرضات، مع الأخذ في الاعتبار ‏تقديمات المستشفيات للطاقم التمريضي الذي يعمل لديها، وهذه الدراسة ستقدّمها ‏النقابة الى وزارتي الصحة والعمل ونقابة المستشفيات من أجل التعاون لوقف هذا ‏النزيف والهجرة التي تعود بالضرر على القطاع المحلي.‏

وعن جدول الرواتب المعتمد للجيش الأبيض، أوضحت ساسين ان راتب الممرض ‏المجاز يقدّر بمليونين ونصف المليون ليرة لبنانية إلا انه في بعض المستشفيات ‏يتقاضى الممرض مليون ليرة أو مليوناً ونصف المليون ليرة، وهي رواتب باتت ‏رمزية بالمقارنة مع الأعباء الكبرى الملقاة على كاهل القطاع التمريضي، الجيش ‏الأبيض في الحرب ضد جائحة كورونا. وفي السياق، تطرح ساسين تقديم ‏مساعدات معينة للممرضين إذا تعذّر رفع الراوتب مثل تأمين صحي أو بدل نقل ‏إضافي.‏

هذا الواقع الصعب الذي يرزح تحته الممرضون يدفعهم إذاً الى الهجرة بحثاً عن بلد ‏يقدّر جهودهم ويترجم التحية بتقدير مادي يُضاف الى التقدير المعنوي. وتشير ‏النقيبة ساسين الى ان الطلب كبير على الممرضين اللبنانيين نظراً الى الكفاءات ‏العالية التي يتمتعون بها، وهم يتلقون العروض من الدول العربية المجاورة الصديقة ‏كما من دول أوروبية كبلجيكا وفرنسا وكذلك من الولايات المتحدة الأميركية، وتلفت ‏الى ان مغادرة أصحاب الخبرات اليوم تفرغ الجسم التمريضي من كباره، فيما ‏الأجيال الجديدة تحتاج الى المرافقة للتمرّس أكثر واكتساب الخبرات اللازمة ‏خصوصاً أننا لا نزال نخوض المعركة مع كورونا.‏

باب الهجرة مفتوح

في التمريض كما في الطب الأزمة واحدة... باب الهجرة مفتوح للبنانيين، وها هو ‏الدكتور شربل خليل الاختصاصي بالأمراض السرطانية وعلاج الخلايا الجذعية ‏العائد قبل أعوام من باريس الى لبنان يستعد للهجرة مجدداً. مع عودة خليل من ‏باريس افتتح أول مختبر لتخزين الخلايا الجذعية للحبل السرّي ولزراعة ومعالجة ‏الخلايا الجذعية في لبنان ‏Reviva Regenerative Medicine Center، ‏تأسّس عام 2014 وهو تابع لمستشفى الشرق الأوسط في بصاليم. هذا المركز ‏بمثابة الطفل بالنسبة الى الدكتور خليل والتحدي الأول ونقطة انطلاق أساسية في ‏مسيرته المهنية لكن مصيره كان تعليق نشاطاته بالكامل بعدما فقد إنتاجيته نتيجة ‏أزمة فقدان الأدوية والمستلزمات الطبية والدولار الذي أفرغ جيوب المرضى.‏

وفي حديث الى "نداء الوطن" يقول د. خليل "وصلنا الى مرحلة ما عم نعمل شي... ‏صرنا مقهورين أخلاقياً لأننا غير قادرين على العمل والإنتاج بأخلاق وضمير، لا ‏بل أكثر بتنا نصرف المرضى لعدم توافر الدواء أو لعدم قدرتهم على تكبّد تكاليف ‏العلاجات وما باليد حيلة".‏

خليل الذي تردّد طويلاً قبل حسم قراره، بدأ حزم حقائبه للمغادرة هذه المرة الى ‏الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً الى مركز ‏MD ANDERSON‏ العالمي ‏لزرع الخلايا الجذعية ولمعالجة مرضى السرطان في ولاية هيوستن بعدما تلقى ‏عرضاً منذ حوالى العام في خلال مشاركته في أحد المؤتمرات الطبية، من أجل ‏المشاركة في تأسيس مركز لتخزين الحبل السرّي في أميركا.‏

الفرصة كبيرة ومغرية أمام دكتور خليل وعلى الرغم من ذلك حاول أن يعيد التفكير ‏مراراً علّه يجد سبباً ليعود عن قرار الهجرة لكنه للأسف لم يجد في ذهنه ما يعطيه ‏أملاً بأيام أفضل في لبنان أقلّه في المدى المنظور، ويقول "حالياً ربّما أكون أكثر ‏فعالية وإفادة لمرضاي وأنا في الخارج لأنني في لبنان مكبّل اليدين" مشيراً الى انه ‏بإمكانه إرسال الأدوية المفقودة الى مرضاه كما أنه سيكون قادراً على مساعدة ‏الاهل والأصدقاء أكثر من خلال ارسال بعض الدولارات لتسيير أمورهم بشكل ‏أفضل.‏

بهذه الخطوة لمؤسس مركز ‏reviva‏ يُعلّق المختبر نشاطاته حتى إشعار آخر على ‏ان يتمّ نقل الخلايا الجذعية الموجودة لديه الى مختبر مماثل في الأردن للاحتفاظ بها ‏هناك، إلا أن د. خليل يجزم أنه متى تحسّنت أحوال البلد سيعود مجدداً الى لبنان ‏ليعيد تشغيل مختبره الأوّل المتخصص بسحب الخلايا الجذعية ومعالجة امراض ‏الدم وتخزين الحبل السرّي إضافة الى ضمّه قسماً يعنى بالتجارب والأبحاث الطبية ‏والسريرية.‏

الجراحات في خطر!‏

الجسم الطبي يعيش مرحلة تصفية خبرات وهو منذ العام 2019 فقد ما لا يقلّ عن ‏ألف وثلاثمئة طبيب، ويقول نقيب الأطباء شرف أبو شرف لـ"نداء الوطن" أنه لم ‏يبق مستشفى جامعي في بيروت إلا وخسر على الأقل مئة طبيب اختصاصي من ‏أصحاب الكفاءات العالية ما يشكل خطراً على لقب "مستشفى الشرق" الذي يتغنى ‏به لبنان والقائم بالأساس على هؤلاء الاختصاصيين لأننا لن نكون قادرين على ‏إجراء بعض الجراحات الكبرى مثل زراعة الكبد التي تنفّذها مجموعة من الأطباء ‏الاختصاصيين وإذا نقص اختصاصيٌ واحد يتوقّف العمل بكامله لأنه سيكون هناك ‏عنصر مفقود. ويشرح ابو شرف ان التأثير الأكبر على الجراحات وتحديداً جراحة ‏الرأس والعظام نظراً الى دقّتها العالية، متحدثاً ايضاً عن فقدان أعداد هائلة من ‏أطباء المختبرات والطوارئ والعناية الفائقة في وقت القطاع الطبي بأمسّ الحاجة ‏الى هذا النوع من الاختصاصات الموجودة بأعداد غير كافية أساساً ما يفاقم الأزمة. ‏ويشير ابو شرف الى نقص في أعداد أطباء التخصص الفرعي ‏sous ‎specialization‏ ويضرب مثالاً المتخصصين بطبّ قلب الأطفال والبالغ عددهم ‏عشرة في كل لبنان رغم الحاجة الى عشرين من هذا الاختصاص على الأقل، لكن ‏الواقع أن خمسة منهم غادروا البلد، كذلك الأمر بالنسبة الى اختصاص غدد ‏الأطفال..‏

ويضيف ابو شرف آسفاً ان هؤلاء الاختصاصيين درسوا في الخارج إنما اكتسبوا ‏خبراتهم في لبنان الذي تكلّف على تدريبهم وها هو الغرب يقطفهم اليوم ثمرة ‏ناضجة من دون أي جهد لكنهم يلقون التقدير المادي والمعنوي الذي لا يجدونه في ‏لبنان".‏

مغناطيس الدولارات

واقع الهجرة والاغتراب على الرغم من مرارته غير أنه فرصة كبيرة أمام ‏اللبنانيين لتحسين أحوالهم وشروط حياتهم ومستقبل أبنائهم خارج وطنهم الأم حيث ‏فقدوا أدنى مقومات وكرامة العيش بفضل حكّامه الذين حوّلوه الى جهنّم تحرق ‏بنيرانها كل من وطئت قدماه هذه الأرض...‏

وفي الأرقام، يكشف رئيس لجنة الصداقة اللبنانية السعودية ايلي صعب عن الطلب ‏الكبير على طواقم الجسم الطبي التمريضي الاستشفائي في لبنان مع العلم ان ‏الأرقام تخضع لتفاوت إجراءات مكافحة كورونا في الدول بما يؤثّر على حركة ‏السفر والقيود المفروضة.‏

خلال العام الأخير، استقطبت المملكة العربية السعودية من لبنان أطباء تجميل، ‏أطباء أسنان متخصصين في الـ ‏hollywood smile‏ إضافة الى العديد من ‏الممرضات، وهذه الاختصاصات هي عينها مطلوبة في قطر وسلطنة عُمان التي ‏استقطبت مئة وخمسين ممرضة من بيروت وحوالى خمسة وثلاثين طبيب أسنان.‏

لماذا هذه الاختصاصات بالتحديد؟ لأن كفاءات اللبنانيين في هذه المجالات عالية ‏جداً بما يغيّب أي منافسة من جنسيات أخرى والمفارقة أن اللبناني لا يهاجر بأقلّ ‏من خمسة آلاف دولار لأن لبنان يصدّر كفاءات وخبرات بينما مصر والفيليبين ‏وباكستان تصدّر عمالة.‏

أما الرواتب التي تدفعها دول الخليح الى أطباء لبنان لاستقطابهم فهي تتراوح بين ‏خمسة الى عشرة آلاف دولار شهرياً، كما ان هناك مشاريع شراكة تُقام في ‏العيادات بحيث يكون المستثمر طبيباً خليجياً يشاركه طبيب لبناني بخبرته.‏

ويشير صعب الى ان حوالى خمسمئة وخمسين الف لبناني في دول الخليج يقومون ‏بتحويل نحو ثمانية مليارات دولار الى لبنان، (منهم في السعودية وحدها ثلاثمئة ‏وخمسون ألف لبناني) يقومون بتحويل اربعة مليارات دولار الى أهلهم في لبنان. ‏بينما التحويلات المالية من مصر فلا تزيد عن خمسمئة مليون دولار بحدّها ‏الأقصى.‏