أخبار لبنان

‏"حزبُ الله" مِنهم وفينا

تم النشر في 12 آب 2021 | 00:00

افتتاحيّةُ جريدة النهار - سجعان قزي



نستطيعُ معاداةَ حزبِ الله ــــ عِلمًا أنّه هو يُعادي الجميع ـــ لكنّنا لا نستطيعُ أن ‏نَتجاهَلَه. نستطيعُ التَفنُّنَ وحدنَا بالتفكيرِ بمصيرِ لبنان، لكنّنا لا نستطيعُ تقريرَ ‏المصيرِ من دون مشاركتِه. نَستطيعُ اعتبارَه امتدادًا للمشروعِ الإيرانيِّ، لكنّنا لا ‏نَستطيعُ نُكرانَ أنّه جُزءٌ من الشعبِ اللبنانيّ. نستطيعُ التيَقُّنَ من أنّه حالةٌ سلبيّةٌ في ‏الشراكةِ الوطنيّة، لكنّنا لا نَستطيعُ إسقاطَ عضويّتِه من الشراكةِ الوطنيّة.‏

الخروجُ من هذه الإشكاليّةِ في إطارِ وحدةِ لبنان، يستلزمُ حدوثَ تغييرٍ في مشروعِ ‏حزبِ الله السياسيِّ والعسكريِّ والعقائديِّ ليصُبحَ حزبًا لبنانيًّا بعقيدتِه وولائِه لا ‏بأعضائِه فقط. لكنَّ هذا التغييرَ بعيدُ المنالِ في المدى المنظورِ من خلالِ حوارٍ ‏لبنانيٍّ مع الحزب. وإذا كان البعضُ يَنصَحُ بالانتظار، سها عن بالِه أنَّ الانتظارَ، ‏عدا أنّه لمصلحةِ الأقوى، أي حزبِ الله، فإنَّ اللبنانيّين، المشْرِفين على الانهيارِ ‏الكاملِ، لا يَستطيعون الانتظارَ أكثر من أشهرٍ قليلة. فإذا كانت مشكلةُ حزبِ الله ‏لبنانيّةً وحلُّها خارجيَّا، فلا يعني أن نُسَلِّمَ بها ونتعايشَ معها، خصوصًا أنها ليست ‏محصورةً جغرافيًّا.‏

مجموعُ هذه الإشكاليّاتِ يَعني أنَّ لبنان، بوجودِ حزبِ الله كما هو، سيَبقى دولةً ‏مُعلّقةً، ودستورًا مُهَمَّشًا، وحدودًا سائبةً، وفي أزْمةٍ متكرِّرةٍ ونزاعٍ مُستدامٍ وعلى ‏موعدٍ دائمٍ مع الحروبِ والاعتداءاتِ الإسرائيليّة. هذا الواقعُ يُثبِّتُ الطبقةَ السياسيّة. ‏يَحولُ دون بروزِ النُخبِ الجديدة. يُعرقِلُ تطويرَ النظام. يَجعل الجيَش قوّةً رديفةً في ‏مواجهةِ إسرائيل. يُهشِّلُ المستثمِرين اللبنانيّين والأجانب. يُبعِدُ لبنانَ عن محيطِه ‏العربيّ ويَعزِلُه عن الغرب. يَضرِبُ الدورةَ الاقتصاديّة. يُدمِّرُ النظامَ المصرِفيّ. ‏يُدنّي النموَّ، يَرفعُ البطالة، يُفقِرُ الشعبَ ويُجوِّعُه، يَزيدُ الهجرة ويُصَحِّرُ المجتمع. أي ‏أنَّ لبنان يبقى كما هو اليومَ وعلى أسوأ.‏

هذا الواقعُ الكارثيُّ يُطيحُ حتمًا الشراكةَ الوطنيّةَ حتّى من دونِ قرارٍ ومن دونِ ‏إرادة، إنما بحكمِ "مُنتَهى الحاجة". كم من أمرٍ واقعٍ صارَ واقعًا شرعيًّا بغيابِ أمرٍ ‏يَضعُ حدًّا له. وحزبُ الله المطْمَئِنُّ إلى غيابِ هذا الأمرِ نظرًا لـــ"الداليّة" بينَه وبين ‏الدولةِ والجيشِ اللبنانيِّ وغالِبيّةِ المؤسّساتِ الأمنيّةِ، يَترُك الآخَرين يَقلَقون ‏ويَحتارون ويَحُكّون رؤوسَهم لمعرفةِ كيفيةِ حلِّ مُعضِلةٍ لا حلَّ لها في النظامِ ‏المركزيِّ القائم.‏

في هذا الإطار، نلاحظُ أنَّ المكوّناتِ اللبنانيّةَ المتضايقةَ من حالةِ حزبِ الله، تتركُ ‏للمكوّنِ المسيحيِّ إثارةَ القضيةِ وتَضَعه في الواجهةِ والمواجَهة. تَحتكِرُ هي تَرفَ ‏التفرّجِ والمزايدةِ وإجراءِ التسويات معه، بل تَنتقدُ المسيحيّين أحيانًا إذا طَرحوا ‏اللامركزيّةَ أو الفدراليّةَ أو أيَّ حلٍّ آخَر يَحفَظُ وِحدةَ لبنان في إطارِ هندسةٍ دستوريّةٍ ‏خلّاقة. حان الوقتُ أن يَنتهيَ هذا التَشتُّتُ العنْجَهيُّ فتَنتَظمَ قِوى السيادةِ والتغيير في ‏جَبهةٍ متَّحِدةٍ تحاورُ وتواجِه، وتقولُ: "الأمرُ لي" طالما أهلُ الأمرِ لم يَستعمْلوا ‏أمرَهَم ولم يُنقِذونا. خلافُ ذلك، سيضُطرُّ كلُّ مكوّنٍ أن يَقتلِعَ شوكَه بيدَيه. لقد "بَلغَ ‏السَيْلُ الزُّبى".‏

إن الّذين يتّهمون المسيحيّين من وقتٍ إلى آخَر بالرهانِ على حلفِ الأقليّات، تناسَوا ‏أنّ الاتفاقَ مع حزبِ الله وشركائِه أسهلُ على المسيحيّين من غيرهم، لكنهم، ‏باستثناءِ ميشال عون، لم يَفعلوا ذلك حِرصًا على الشراكةِ الوطنيّة الشاملةِ من جِهةٍ، ‏ولكون أقليّاتِ لبنانَ والشرقِ مُضطَهِدةً وليست مُضْطَهَدة. وفي العقود الأخيرة، كان ‏المسيحيّون رأسَ الحربةِ في التصدّيِ لكلِّ أقليّةٍ في المنطقةِ حاولت احتلالَ لبنان أو ‏التوطّن فيه. وأصلًا لو كان المسيحيّون يؤمنون بحِلفِ الأقليّات لما اختاروا ـــ ‏أحرارًا ـــ سنةَ 1920 صيغةَ "لبنان الكبير".‏

المكوّنُ الشيعيُّ هو جُزءٌ أصيلٌ من التعدُّديةِ الحضاريّةِ اللبنانيّة، لكنَّ حزبَ الله ـــ ‏بما هو لا بما يُمثِّل ـــ ليس جُزءًا من هذه التعدّديّةِ لأنَّ اختلافَه عن سائرِ اللبنانيّين ‏ليس مَردُّه إلى خصوصيّةٍ لبنانيّة، إنّما إلى خصوصيّتِه الإيرانيّةِ الخمينيّة. بذلك، ‏وخِلافًا لحركةِ "أمل"، يَفقِدُ حزبُ الله الحقَّ في تعديلِ الحياةِ الدستوريّةِ والميثاقيّةِ ‏لأنَّ هذا الحقَّ محصورٌ بمكوِّناتِ التعدّديةِ اللبنانيّةِ لدى تأسيسِ دولةِ لبنان سنةَ ‏‏1920. فكلُّ مكوِّنٍ يَتحوّرُ يَتحوّلُ حالةً مُضافةً لا يَستوعبُها النظامُ التعدّديُّ اللبنانيّ. ‏من هنا نَفهم أكثرَ الأسبابِ الكامِنةِ وراءَ مطالبةِ السيد حسن نصرالله بمؤتمرٍ ‏تأسيسيٍّ: يريدُ تعديلَ تركيبةِ التعدّديةِ اللبنانيّةِ وهُويّتِها، وإضافةَ مُكوِّنٍ جديدٍ مُتحَوِّرٍ ‏على "مجلسِ إدارتِها" يُغيّرُ نظامَ المساواةِ الميثاقيّة.‏

حين يُصبح السيّدُ حسن نصرالله جُنديًّا في الجيشِ اللبنانيِّ، لا في ولايةِ الفقيه، ‏يَستعيدُ حَقَّه في الحوارِ الدستوريّ، ولا يَعودُ يحتاجُ مؤتمرًا تأسيسيًّا. لكنَّ المؤسفَ ‏أنَّ جميعَ التضحيات التي قَدمّها شبابُ حزبِ الله في مواجهةِ إسرائيل وُظِّفَت في ‏المشروعِ الإيرانيِّ لا في الدولةِ اللبنانيّة.‏

واللبنانيون - شعبًا ودولةً وأحزابًا - لم يُوفِّروا فرصةً للتفاهمِ مع حزبِ الله. عَقدوا ‏هيئاتِ حوارٍ وطنيٍّ، وحواراتٍ ثنائيّةً وثلاثيّةً، طَرحوا تسوياتٍ لسلاحِه، تغاضَوا ‏عن التنفيذِ الدقيقِ للقراراتِ الدُوَليّة، دَعوا إلى استراتيجيّةٍ دفاعيّة، هلّلوا حين وقّعوا ‏مع حزبِ الله على "إعلان بعبدا". لكنَّ جميعَ هذه الجهودِ ذهبَت سُدًى. لم يُعدِّل ‏الحزبُ بموقفِه قيدَ "شْوَيّة"، وأكثر: لاحَظنا أنَّ حزبَ الله يَتصرّفُ تجاهَ اللبنانيّين ‏كما تَتصرّفُ إيران تجاه المجتمعِ الدولي، أي بذات السلبيّةِ والغطرسة. وهذا محزِنٌ ‏لأنّنا طلّابُ شَراكةٍ وطنيّة. نحن نُريد حزبَ الله "مِنّا وفينا" لا "مِنهم وفينا".‏

فشلُ الحوارِ مع حزبِ الله لا يَنعكِسُ سلبًا على العَلاقةِ مع الحزبِ فقط، بل على ‏العَلاقةِ مع الطائفةِ الشيعيّةِ عمومًا. فالحزبُ سيطرَ على هذه الطائفةِ اللبنانيّةِ ‏الأصيلة، ويواجِهُ بها سائرَ الطوائفِ الإسلاميّةِ والمسيحيّةِ والدُرزيّة. وبالتالي، ‏يَستحيلُ إجراءُ تغييرٍ دُستوريٍّ يأخذُ بالاعتبارِ حزبِ الله بوضعهِ الحاليّ في الجَنوب ‏والبقاع من دون أن تَتأثرَ بذلك كلُّ التركيبةِ الوِحدويّةِ المركزيّةِ لأسبابٍ جُغرافيّةٍ ‏وديمغرافيّةٍ وميثاقيّة. بتعبيرٍ آخَر، يَصعُبُ على السُنّةِ والمسيحيّين والدروز أن يَبقَوا ‏معًا موحَّدين في إطارِ لبنانَ الحالي ويَتركوا، بموازاتِهم، إخوانَهم الشيعةَ في حالِ ‏انفصالٍ أو ما شابه، عِلمًا أنَّ حالةً شيعيّةً تنمو بسرعةٍ خارجَ بيئةِ حزبِ الله، ‏وتَرفضُ مشروعَه وتَتمسّكُ بلبنانَ الشراكةِ الوطنيّة.‏

نحن أمام مشكلةٍ غير قابلةِ الحلِّ من خلال بُنيةِ الدولةِ الحالية. فَلْنَتَحَلَّ بالجرأة ‏ونُواجهْ هذه الحقيقة الـمُرّة عوضَ الدوران في حلقةٍ مفرَغة.‏

آمَلُ أن يكونَ مضمونُ هذا المقال مادّةَ حوار...‏