أخبار لبنان

ديبلوماسيّةُ "ألفِ ليلةٍ وليلة"‏

تم النشر في 9 أيلول 2021 | 00:00

سجعان قزي - النهار


‏ ‏

لم تَنتظر إيران الاتّصالَ بين رئيسِها الجديد إبراهيم رئيسي والرئيس إيمانويل ‏ماكرون، لتُدركَ مدى حَظْوَتِـها لدى فرنسا. منذ العهودِ الملكيّةِ والحَمَلاتِ الصَليبيّة، ‏وبلادُ فارس جُزءٌ من الذاكرةِ التاريخيّةِ الفرنسيّة. الملِكُ لويس الرابع عشر استقبلَ ‏في 19 شباط 1715 سفيرَ السلطان حسين صَفَويّ في قصر ڤرساي. فلاسفةٌ ‏ورحّالةٌ وأدباءُ وشعراءُ فرنسيّون كتبوا بإعجابٍ عن تلك البلادِ التي "لا تَنتشرُ في ‏مروجِها سوى الورود" (ديدْرو)، و"بَلاطُ سلطانِها يَفوحُ عظمةً أكثرَ من البابِ ‏العالي العثماني" (ڤولتير).‏

وإذا كان الفرنسيّون انتظروا حَملةَ بونابرت إلى مِصر سنةَ 1798 ليُبالوا مباشرةً ‏بالتراثِ المصري، فاكتِراثُهم ببلادِ فارس تنامى منذ القرنِ السادسَ عَشَرَ، وتعَزَّزَ ‏في القرونِ التالية، لاسيّما في عصرِ الأنوارِ مع ڤولتير ومونتسكيو وديدْرو ‏وشاردان وغالان، إلخ... لكنَّ السياسةَ لم تواكِبْ المسارَ الأدبيَّ، ففرنسا كانت ‏مرتبِطةً باتّفاقاتٍ وامتيازاتٍ مع العثمانيّين، من بينِها الحقُّ في حمايةِ مسيحيّي ‏الشرق. ولـمّا أقدَم الملِكُ لويس الثالثَ عَشَر نحو سنةِ 1640على عقدِ اتفاقاتٍ ‏تجاريّةٍ مع الشاه عباس الصَفَويّ وضَمّنَها حقَّ حمايةِ مسيحيّي بلادِ فارس، أفْشلَها ‏العثمانيّون.‏

كَوّنَ المجتمعُ الفرنسيُّ، السياسيُّ والنخبويُّ، هذه الصورةَ شِبهَ الرومانسيّة لأنه ‏تَعرّف على بلادِ فارس من خلال الأدباءِ والرحَّالةِ الّذين كتبوا عن أُبَّـهةِ سلاطينِها ‏وانفتاحِ شعبِها، عن قِبابِ جوامِعها الزرقاءِ والسمراء، عن البذخِ والليالي ‏الصباحيّة، عن قِصصِ "ألفِ ليلةٍ وليلة"، عن شِهْرَذاد وشَهْرِيار. حتى أنَّ ممثّلِي ‏فرنسا وتوسكانا حاولوا إقناعَ أميرِ جبلِ لبنان، فخرالدين المعني الثاني، بالتحالفِ ‏مع الفرس سنتَي 1607 و1634، فتَحفّظَ خَشيةَ إثارةِ العثمانيّين الّذين وسّعُوا سُلطةَ ‏المعنـيِّين مِن أعالي الشُوفِ حتّى صيدا ومُحيطِها الجَنوبيّ لمُراقَبةِ صَفَوِيِّي البِقاع ‏الشَّماليّ وشِيعةِ بَني عامل في الجَنوب ومَنعِ اتصالِـهم بإيران.‏

ظلّت صورةُ بلادِ فارس جميلةً في مخيّلةِ الفرنسيّين إلى أن راحَ المؤرِّخون ‏والباحِثون يَتناولون الوجهَ العسكريَّ والدمويَّ للإمبراطوريّاتِ الفارسيّةِ ‏واضْطِهادَهم مسيحيّي جورجيا والأرمن، واجتياحَهم أفغانستان وشعوبًا أخرى في ‏آسيا الوسطى. رغم ذلك، ظلَّ الفرنسيّون يتمايَلون بين بلادِ فارس الحضارةِ ‏والآداب، وبلادِ فارس الحربِ والعنف. لم تَحسِمْ فرنسا خِيارَها النهائيَّ حتّى بعد ‏انتصارِ الثورةِ الخمينيّة سنةَ 1979 لأنّ هناكَ بلادَ فارس أخرى هي آبارُ النَّفطِ ‏والمشاريعُ الكبرى والأسواقُ التجاريّةُ الواسعة.‏

في الخامس من أيلول الجاري، والمفاوضاتُ الأميركيّةُ متعثِّرةٌ في ڤيينا، أبلغَ ‏الرئيسُ الإيرانيُّ رئيسي الرئيسَ الفرنسيّ ماكرون في اتّصالٍ هاتفيّ "ضرورةَ ‏تأليفِ حكومةٍ لبنانيّةٍ قويّة". ساد فرحٌ عظيمٌ في قصرِ الإليزيه حتّى أنَّ مسؤولًا ‏فرنسيًّا رفيعَ المستوى تَبرَّعَ من أموالِ "سيدر"، وأعْطى براءةَ ذِمّةٍ لإيران من أزْمةِ ‏لبنان الحكوميّةِ (رسالةُ رندة تقي الدين من باريس ــــ "النهار" 06 أيلول). لا نَشُكُّ ‏لحظةً في نيّةِ فرنسا الحسَنةِ تجاهَ لبنان، ونَثِقُ بأنّها ستبقى إلى جانبِ لبنانَ وشعبِه ‏حتّى يَخرُجَ من مِـحنتِه. لكن، كَم من الأخطاءِ القاتلةِ وَقعَت باسمِ النيّاتِ الحسنةِ ‏وبسببِ عدمِ استيعابِ خصوصيّات الأمم؟ وأصلًا، جميعُ مشاكلِ لبنان الداخليّةِ ‏والإقليميّةِ نَتجَت عن صراعٍ بين النيّاتِ الحسنةِ والنيّاتِ السيّئة.‏

سنةَ 1976 ظنَّت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ أنَّ تكليفَ النظامِ السوريِّ الوصايةَ ‏على لبنان يُوقِفُ الحربَ ويُعيدُ الاستقرارَ إلى البلاد. تَبيّنَ لاحقًا خَطأَ ذاك الخِيارِ ‏الحسنِ النيّة، إذ تحوَّلت سوريا قوّةَ احتلالٍ عن سوءِ نيّة، فكانت الحروبُ، وكانت ‏المقاومةُ اللبنانيّةُ بقيادةِ بشير الجميّل بنيّةِ التحرير. حبّذا لو تَتفادى فرنسا سنةَ ‏‏2021 تَكرارَ الخطأِ الأميركيّ، وتُعفينا من مقاومةٍ جديدة. تَرتكبُ فرنسا ذنبًا ‏تاريخيًّا إذا راهَنت على أنَّ شَراكةً مع إيران في الوصايةِ على لبنان تُنهي الأزمةَ ‏ويَعودُ لبنان سيّدًا مستقِلًّا ومستقِرًّا. هذا مشروعُ حربٍ لا مشروعُ سلام، إلا إذا كان ‏التفاهمُ بينَهما يُترجَمُ بإرسالِ قوّاتٍ فرنسيّةٍ موَقّتةٍ إلى لبنان لتطبيقِ القراراتِ الدوليّةِ ‏التي كانت فرنسا عَرّابةَ العديدِ منها، وفي طليعتِها القراراتُ 1559 و1757 ‏و1701 (مِن أينَ لنا هذا؟)‏

لا يعارضُ اللبنانيّون بالمبدأِ سعيَ باريس إلى تحسينِ علاقاتِها مع إيران إذا صَدقَت ‏في وعودِها للرئيسِ ماكرون. لكنَّ اللبنانيّين يَتوجَّسون من أنْ يأتيَ تحسينُ العَلاقاتِ ‏الفرنسيّةِ/الإيرانيّةِ على حسابِ لبنان نظرًا لوجودِ مشروعٍ إيرانيٍّ يَشمُلُ السيطرةَ ‏على لبنان. بالنسبة إلينا، سنرفُض أيَّ تسويةٍ دوليّةٍ أو إقليميّةٍ تُضحّي بمصلحةِ لبنان ‏وبوجودِه الحرّ، وسنُقاومُها بكلِّ ما تَعني كلمةُ مقاومة، والباقي يأتي...‏

مُجملُ التطوّراتِ الفرنسيّةِ/الإيرانيّةِ يَكشِفُ أنَّ إيران: 1) تَتدخّلُ في القضايا ‏اللبنانيّةِ، ولا تُقيم شأنًا للشرعيّةِ اللبنانيّة، وأنّها الجِهةُ الأساسيّةُ التي تَـحُول منذ ‏ثلاثةَ عَشَرَ شهرًا دونَ تأليفِ الحكومةِ. 2) لا تَسعى إلى خلقِ شراكةٍ مع فرنسا في ‏لبنان، إنما إلى استجرارِ تغطيةٍ فرنسيّةٍ لتدخُّلِها في لبنان وسيطرةِ حزبِ الله عليه ‏‏(هكذا فَعل النظامُ السوريُّ مع أميركا بين 1976 و 2005). 3) تحاولُ من خلال ‏التقاربِ مع فرنسا، وتاليًّا مع الاتحاد الأوروبي، تعطيلَ العقوباتِ الأوروبيّةِ ‏الجديدةِ، والالتفافَ على الولاياتِ المتّحدةِ والرَدَّ على تَشدُّدِها في محادثاتِ ڤيينا ‏حيثُ ربَطت واشنطن الاتّفاقَ النوويَّ بحسْرِ دورِ إيران في دولِ الشرقِ الأوسط، ‏وبخاصّةٍ في سوريا ولبنان.‏

إنَّ اعترافَ فرنسا بدورِ إيران في لبنان هو توطئةٌ لإشراكِها في أيِّ مؤتمرٍ دوليٍّ ‏بشأنِ لبنان، أو في أيِّ مؤتمرٍ لبنانيٍّ برعايةٍ دوليّةٍ على غرارِ إشراكِها في ‏المؤتمراتِ المتعلِّقةِ بالعراق. منذ أن سيطرَت إيران عبرَ حزبِ الله على لبنان ‏انهارت الدولة، وعَجِزَت أن يكونَ دورُها بديلًا عن الاتّحادِ الأوروبيِّ وأميركا ‏وصندوقِ النقدِ الدوليّ والدولِ المانِحة ومؤتمرِ سيدر والأمم المتحدة. لذا، يبدو ‏غريبًا أن تعترفَ فرنسا رسميًّا بدورِ إيران في لبنان من دون أن تَكشِفَ لنا ماذا ‏حصَّلت للبنانيّين، وليس لها، من إيران؟ وما هي نقاطُ التفاوضِ بشأنِ لبنان؟ إذا ‏كان اعترافُ فرنسا بدورِ إيران في لبنان ناتجًا عن وجودِ حزبِ الله فيه، فيَعني أنَّ ‏فرنسا تَعترفُ استطرادًا بسلاحِه. خطورةُ مثلِ هذا الاعترافِ أنه ليس على حسابِ ‏الأطرافِ اللبنانيّةِ الأخرى فقط، بل على حسابِ دولةِ لبنان. حينئذ لا يبقى أمامَنا ‏سوى تلبيةِ نداء: لبَّيكَ لبنان.‏

‏***‏