أخبار لبنان

‏"حزب الله" محشور أمام جمهوره ومناصريه ‏

تم النشر في 26 تشرين الأول 2021 | 00:00

كتب هاني عانوتي في "الشرق الأوسط": ‏



القارئ في التاريخ والسياسة اللبنانية وإلى حد ما الشرق أوسطية، يعلم جل العلم أن ‏وضع «حزب الله» الحالي كما هو عليه لا يمكن أن يستمر، وأن نفوذ الحزب ‏وقوته أصبحا أكبر من حجمه وقدراته وأضخم من محيطه، وأن الدولة اللبنانية غير ‏قادرة على استيعاب «حزب الله» الذي أصبح قوة رديفة عن القوة الشرعية إن لم ‏نقل أقوى من الدولة المهترئة والمتفككة. فغالباً ما تكون الدولة ومؤسساتها الحاضن ‏الطبيعي للأحزاب التي تعمل وفق نصوص قانونية واضحة وتحت إشراف الدولة ‏ومؤسساتها حتى مع سيطرة الأحزاب الحاكمة على السلطة. وهذا ليس الحال مع ‏‏«حزب الله».‏

في خطابه الأخير بعد أحداث الطيونة بدا الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر ‏الله مرتبكاً لأنه وضع نفسه الوصي على الدولة ومؤسساتها، فاتحاً النار بصورة ‏مباشرة أو غير مباشرة على الكثير من المكونات اللبنانية، فهو يعلم جيداً - ‏وخصومه يعلمون أيضاً - أنه مهما تعاظمت قوته العسكرية لا يمكن استعمالها في ‏الداخل اللبناني. وهو يعلم أيضاً أنه «محشور» أمام جمهوره ومناصريه لأنه من ‏جهة قوي عسكرياً ومن جهة ثانية ضعيف لبنانياً، وخياراته، من ضمنها العسكري، ‏محدودة لا يمكن أن تتخطى في بُعدها الأقصى سوى مناوشات خفيفة، فـ «7 أيار ‏جديد» لن يحصل، ليس لأن الحزب لا يريده، ولكن لأنه يعلم أن 2021 ليس ‏‏2008 وأن أحد أسوأ أخطاء «حزب الله» الداخلية التي أنتجت ما وصل إليه اليوم ‏من عداء مع جميع المكونات اللبنانية هو «7 أيار 2008».‏

فمنذ انخراطه الفعلي في العمل السياسي، أي ما بعد سنة 2005 حتى يومنا هذا، لم ‏يبق لـ«حزب الله» إلا بعض الأصدقاء والحلفاء من مختلف المكونات اللبنانية. فلا ‏العلاقة مع فئة من المسيحيين متينة وخصوصاً «التيار الوطني الحر»، ولا العلاقة ‏مع السُنة والدروز مقبولة، وحتى داخل الطائفة الشيعية الأصوات المقموعة تتعالى. ‏وما أحداث السنوات الأخيرة وتحديداً منذ 17 تشرين الأول 2019 إلى يومنا هذا ‏إلا شهادة على ذلك. زد على ذلك، لم يستطع «حزب الله» الحفاظ على البيئة ‏الحاضنة لما يسمى المقاومة خارج مناطق نفوذه حصراً (وليس كل الجنوب). ‏فحادثة إلقاء أهالي شويا (قرية جنوبية ذات غالبية درزية) في 6 آب 2021 القبض ‏على مطلقي الصواريخ وهم عناصر من «حزب الله»، ما هي إلا درس يجب على ‏الحزب الوقوف عند مسبباته وتداعياته واستخلاص نتائج عملية تصب في المصلحة ‏العامة وليست مصلحة الحزب وحده؛ لأنه كلما زاد اهتمامه بتأمين مصالحه ‏الخاصة على حساب مصالح لبنان واللبنانيين زاد العداء له وكبر التعاطف الشعبي ‏مع خصومه. وهنا مكمن الفخ الذي وقع فيه الحزب منذ عام 2005.‏

لا يمكن لأحد أن ينكر أن «حزب الله» اليوم في مشكل وجودي وأن خصومه ‏أصبحوا أكثر وأكبر من حلفائه. وأنا لست بموقع الجزم هنا، ولكن الكثير من حلفاء ‏الحزب هم حلفاء مصلحة وحماية وليسوا حلفاء محور. أما خصومه ورغم ‏اختلافاتهم التي لا تلتقي، فمقتنعون بأن «حزب الله» بتصرفاته ونفوذه أصبح يشكل ‏خطراً عليهم وعلى الكيان. فالمعادلة واضحة هنا، كلما زاد نفوذه العسكري قبل ‏السياسي زادت اللاعقلانية في خياراته وتوجهاته. فالعنجهية والاستكبار لا ينفعان ‏في الواقع اللبناني المعقد. ولعب دور الضحية أحياناً أخرى لم يعد ينفع. فالسؤال ‏الأساس اليوم، كيف يمكننا إعادة العقلانية والدور السياسي البحت ولبننة «حزب ‏الله»؟

الخيارات أمامنا محدودة جداً نظراً لتعقيدات الواقع اللبناني والتداخلات الإقليمية ‏والدولية. فلا الحرب مع إسرائيل أو قوة غير لبنانية لإضعاف «حزب الله» خيار؛ ‏لأننا نكون قد وضعنا لبنان واللبنانيين أمام خلافات عميقة ودموية لا يمكن أن تنتهي ‏أبداً حتى لو هُزم الحزب. ونكون بذلك قد دمرنا ما بقي من لبنان كدولة ومؤسسات ‏وكيان. وهو يعلم ذلك، وهذا الاحتمال مستبعد ومرفوض.‏

أما الخيار الثاني الذي يطرحه البعض، فهو الحرب الأهلية التي هي ليست محسومة ‏النتائج ولا الخسائر، فتداعياتها على لبنان ستكون أكبر من أن يسيطر «حزب الله» ‏على لبنان. فالحرب بالنهاية ستؤدي إما لإضعاف نفوذ الحزب وتقلصه تدريجياً ‏حتى إن انتصر، وإما ستؤدي إلى تحوله إلى فُتات أحزاب وتيارات متناحرة، ‏وتاريخ الحروب عامة والحرب الأهلية اللبنانية شاهد على ذلك من حزب الكتائب ‏إلى منظمة التحرير الفلسطينية إلى حزب «القوات اللبنانية» والعديد غيرها ومن ‏ضمنها «حزب الله» نفسه.‏

إن تاريخ المنطقة علّمنا أيضاً أنه لا قوة داخلية أو خارجية يمكن أن تسيطر ‏وتستمر إلى ما لا نهاية، فلعبة الشرق الأوسط مليئة بالدم والنار والقلة من القادة ‏والأحزاب أدركوا مخاطرها، وتعقلوا؛ لذلك العودة إلى الحرب الأهلية غير واقعية ‏وطبعاً مرفوضة.‏

من هنا، فإن الكل مدرك ضمنياً أن خيار الحرب سواء كان داخلياً أم خارجياً ليس ‏حلاً؛ فالطرف الوحيد القادر على معالجة مشكلة «حزب الله» وإخراجه من مأزقه ‏الوجودي وإعادته كحزب سياسي لبناني العقيدة، هو «حزب الله» نفسه أولاً ‏وبمساعدة جميع المكونات اللبنانية ثانياً والدول المؤثرة ثالثاً.‏

من هنا، على «حزب الله» الانخراط في تقييم ذاتي ومراجعة ذاتية لما له علاقة ‏بدوره ومستقبله ووجهته وآيديولوجيته. لا يمكن أن يستمر «حزب الله» على ما هو ‏عليه اليوم من عداء داخلي وإقليمي وخارجي إن لم يعد تصويب البوصلة ‏والتموضع خلف الدولة اللبنانية كمكون أساسي ووحيد لحماية كل المكونات اللبنانية ‏وليس الحزب وحده. عقلانياً ومنطقياً وحتى عملياً، لـ«حزب الله» المصلحة الأولى ‏في الانخراط في مشروع بناء الدولة العادلة والقادرة والمتزنة، والشروع في حوار ‏داخلي على قاعدة مصالحة عامة مع باقي المكونات اللبنانية أولا والعربية والدولية ‏ثانياً.‏

لذا لا مفر لاستمرارية «حزب الله» سوى الانخراط الكلي في الدولة اللبنانية وأن ‏يحول عمله من أمني عسكري إلى سياسي بحت. من هنا، يتوجب على الحزب ‏ترويض رغباته القاتلة كفائض القوة وعبثية قراراته وأحادية اهتماماته والتخلي ‏عنها لصالح الدولة اللبنانية وشركائه في الوطن. هذا الواجب يفرض على الحزب ‏ومَن وراءه إعادة التموضع الإقليمي تحت سقف المؤسسات الرسمية اللبنانية، ‏والعودة إلى لبنان ولبننة جمهوره ومشروعه وآيديولوجيته وتسليم عتاده العسكري ‏إلى الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.‏

إنني أعلم ضمنياً أن هذا الحل قد يكون بعيداً وأن النضوج السياسي - قبل العسكري ‏‏- للحزب لم يكتمل بعد، وأن إدراك واستشعار المخاطر والتعامل معها حتى الآن ‏يُدار على الطريقة الأمنية العسكرية وليس السياسية.‏

فعندما يتقن الحزب أن استعمال السلاح في الداخل لتحقيق مكاسب سياسية هو خطأ ‏مميت قد يكلفه نفسه، يكون قد انتقل من عمر المراهقة إلى الحكمة والموضوعية ‏والثبات، ويكون قد حفظ نفسه ولبنان من السقوط المحتم.‏

في النهاية إن لم يُخرِج هذا الفيل نفسه من الغرفة الخشبية المليئة بالأواني الزجاجية ‏بعناية ودقة متناهية ومن تلقاء نفسه وملء إرادته فسيسقط وتتساقط معه الأواني ‏الواحدة تلو الأخرى ومعها يسقط لبنان وربما المنطقة.‏