كتب هاني عانوتي في "الشرق الأوسط":
القارئ في التاريخ والسياسة اللبنانية وإلى حد ما الشرق أوسطية، يعلم جل العلم أن وضع «حزب الله» الحالي كما هو عليه لا يمكن أن يستمر، وأن نفوذ الحزب وقوته أصبحا أكبر من حجمه وقدراته وأضخم من محيطه، وأن الدولة اللبنانية غير قادرة على استيعاب «حزب الله» الذي أصبح قوة رديفة عن القوة الشرعية إن لم نقل أقوى من الدولة المهترئة والمتفككة. فغالباً ما تكون الدولة ومؤسساتها الحاضن الطبيعي للأحزاب التي تعمل وفق نصوص قانونية واضحة وتحت إشراف الدولة ومؤسساتها حتى مع سيطرة الأحزاب الحاكمة على السلطة. وهذا ليس الحال مع «حزب الله».
في خطابه الأخير بعد أحداث الطيونة بدا الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله مرتبكاً لأنه وضع نفسه الوصي على الدولة ومؤسساتها، فاتحاً النار بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الكثير من المكونات اللبنانية، فهو يعلم جيداً - وخصومه يعلمون أيضاً - أنه مهما تعاظمت قوته العسكرية لا يمكن استعمالها في الداخل اللبناني. وهو يعلم أيضاً أنه «محشور» أمام جمهوره ومناصريه لأنه من جهة قوي عسكرياً ومن جهة ثانية ضعيف لبنانياً، وخياراته، من ضمنها العسكري، محدودة لا يمكن أن تتخطى في بُعدها الأقصى سوى مناوشات خفيفة، فـ «7 أيار جديد» لن يحصل، ليس لأن الحزب لا يريده، ولكن لأنه يعلم أن 2021 ليس 2008 وأن أحد أسوأ أخطاء «حزب الله» الداخلية التي أنتجت ما وصل إليه اليوم من عداء مع جميع المكونات اللبنانية هو «7 أيار 2008».
فمنذ انخراطه الفعلي في العمل السياسي، أي ما بعد سنة 2005 حتى يومنا هذا، لم يبق لـ«حزب الله» إلا بعض الأصدقاء والحلفاء من مختلف المكونات اللبنانية. فلا العلاقة مع فئة من المسيحيين متينة وخصوصاً «التيار الوطني الحر»، ولا العلاقة مع السُنة والدروز مقبولة، وحتى داخل الطائفة الشيعية الأصوات المقموعة تتعالى. وما أحداث السنوات الأخيرة وتحديداً منذ 17 تشرين الأول 2019 إلى يومنا هذا إلا شهادة على ذلك. زد على ذلك، لم يستطع «حزب الله» الحفاظ على البيئة الحاضنة لما يسمى المقاومة خارج مناطق نفوذه حصراً (وليس كل الجنوب). فحادثة إلقاء أهالي شويا (قرية جنوبية ذات غالبية درزية) في 6 آب 2021 القبض على مطلقي الصواريخ وهم عناصر من «حزب الله»، ما هي إلا درس يجب على الحزب الوقوف عند مسبباته وتداعياته واستخلاص نتائج عملية تصب في المصلحة العامة وليست مصلحة الحزب وحده؛ لأنه كلما زاد اهتمامه بتأمين مصالحه الخاصة على حساب مصالح لبنان واللبنانيين زاد العداء له وكبر التعاطف الشعبي مع خصومه. وهنا مكمن الفخ الذي وقع فيه الحزب منذ عام 2005.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن «حزب الله» اليوم في مشكل وجودي وأن خصومه أصبحوا أكثر وأكبر من حلفائه. وأنا لست بموقع الجزم هنا، ولكن الكثير من حلفاء الحزب هم حلفاء مصلحة وحماية وليسوا حلفاء محور. أما خصومه ورغم اختلافاتهم التي لا تلتقي، فمقتنعون بأن «حزب الله» بتصرفاته ونفوذه أصبح يشكل خطراً عليهم وعلى الكيان. فالمعادلة واضحة هنا، كلما زاد نفوذه العسكري قبل السياسي زادت اللاعقلانية في خياراته وتوجهاته. فالعنجهية والاستكبار لا ينفعان في الواقع اللبناني المعقد. ولعب دور الضحية أحياناً أخرى لم يعد ينفع. فالسؤال الأساس اليوم، كيف يمكننا إعادة العقلانية والدور السياسي البحت ولبننة «حزب الله»؟
الخيارات أمامنا محدودة جداً نظراً لتعقيدات الواقع اللبناني والتداخلات الإقليمية والدولية. فلا الحرب مع إسرائيل أو قوة غير لبنانية لإضعاف «حزب الله» خيار؛ لأننا نكون قد وضعنا لبنان واللبنانيين أمام خلافات عميقة ودموية لا يمكن أن تنتهي أبداً حتى لو هُزم الحزب. ونكون بذلك قد دمرنا ما بقي من لبنان كدولة ومؤسسات وكيان. وهو يعلم ذلك، وهذا الاحتمال مستبعد ومرفوض.
أما الخيار الثاني الذي يطرحه البعض، فهو الحرب الأهلية التي هي ليست محسومة النتائج ولا الخسائر، فتداعياتها على لبنان ستكون أكبر من أن يسيطر «حزب الله» على لبنان. فالحرب بالنهاية ستؤدي إما لإضعاف نفوذ الحزب وتقلصه تدريجياً حتى إن انتصر، وإما ستؤدي إلى تحوله إلى فُتات أحزاب وتيارات متناحرة، وتاريخ الحروب عامة والحرب الأهلية اللبنانية شاهد على ذلك من حزب الكتائب إلى منظمة التحرير الفلسطينية إلى حزب «القوات اللبنانية» والعديد غيرها ومن ضمنها «حزب الله» نفسه.
إن تاريخ المنطقة علّمنا أيضاً أنه لا قوة داخلية أو خارجية يمكن أن تسيطر وتستمر إلى ما لا نهاية، فلعبة الشرق الأوسط مليئة بالدم والنار والقلة من القادة والأحزاب أدركوا مخاطرها، وتعقلوا؛ لذلك العودة إلى الحرب الأهلية غير واقعية وطبعاً مرفوضة.
من هنا، فإن الكل مدرك ضمنياً أن خيار الحرب سواء كان داخلياً أم خارجياً ليس حلاً؛ فالطرف الوحيد القادر على معالجة مشكلة «حزب الله» وإخراجه من مأزقه الوجودي وإعادته كحزب سياسي لبناني العقيدة، هو «حزب الله» نفسه أولاً وبمساعدة جميع المكونات اللبنانية ثانياً والدول المؤثرة ثالثاً.
من هنا، على «حزب الله» الانخراط في تقييم ذاتي ومراجعة ذاتية لما له علاقة بدوره ومستقبله ووجهته وآيديولوجيته. لا يمكن أن يستمر «حزب الله» على ما هو عليه اليوم من عداء داخلي وإقليمي وخارجي إن لم يعد تصويب البوصلة والتموضع خلف الدولة اللبنانية كمكون أساسي ووحيد لحماية كل المكونات اللبنانية وليس الحزب وحده. عقلانياً ومنطقياً وحتى عملياً، لـ«حزب الله» المصلحة الأولى في الانخراط في مشروع بناء الدولة العادلة والقادرة والمتزنة، والشروع في حوار داخلي على قاعدة مصالحة عامة مع باقي المكونات اللبنانية أولا والعربية والدولية ثانياً.
لذا لا مفر لاستمرارية «حزب الله» سوى الانخراط الكلي في الدولة اللبنانية وأن يحول عمله من أمني عسكري إلى سياسي بحت. من هنا، يتوجب على الحزب ترويض رغباته القاتلة كفائض القوة وعبثية قراراته وأحادية اهتماماته والتخلي عنها لصالح الدولة اللبنانية وشركائه في الوطن. هذا الواجب يفرض على الحزب ومَن وراءه إعادة التموضع الإقليمي تحت سقف المؤسسات الرسمية اللبنانية، والعودة إلى لبنان ولبننة جمهوره ومشروعه وآيديولوجيته وتسليم عتاده العسكري إلى الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية.
إنني أعلم ضمنياً أن هذا الحل قد يكون بعيداً وأن النضوج السياسي - قبل العسكري - للحزب لم يكتمل بعد، وأن إدراك واستشعار المخاطر والتعامل معها حتى الآن يُدار على الطريقة الأمنية العسكرية وليس السياسية.
فعندما يتقن الحزب أن استعمال السلاح في الداخل لتحقيق مكاسب سياسية هو خطأ مميت قد يكلفه نفسه، يكون قد انتقل من عمر المراهقة إلى الحكمة والموضوعية والثبات، ويكون قد حفظ نفسه ولبنان من السقوط المحتم.
في النهاية إن لم يُخرِج هذا الفيل نفسه من الغرفة الخشبية المليئة بالأواني الزجاجية بعناية ودقة متناهية ومن تلقاء نفسه وملء إرادته فسيسقط وتتساقط معه الأواني الواحدة تلو الأخرى ومعها يسقط لبنان وربما المنطقة.