زياد شبيب- صحيفة النهار
يوصف النظام السياسي في لبنان بأنه ديموقراطي وذلك بالاستناد إلى معيار ظاهري شكلي هو أن المواقع الدستورية في السلطة التنفيذية يتم تداولها بصورة سلمية وبالاستناد إلى عملية انتخاب لممثلي الشعب تحظى في الظاهر أيضاً بالشرعية التمثيلية. كما ينطلق البعض من وجود حريات في لبنان تمارس في الحياة العامة وتخوّل المعترضين إبداء الرأي وانتقاد السلطة، للقول بأننا في بلد حريات مقارنة بغالبية الدول المحيطة. أما المقياس الحقيقي لهذه وتلك فهو مدى التأثير الفعلي في موازين القوة وفي التحكم الحاصل في مفاصل السلطة من قبل الجهات التي تتولى هذه السلطة بصورة فعلية، لا سيما أن التداول الظاهر للسلطة لا يطال إلا بعض الوجوه التي لا تعتبر في عداد المجموعة الممسكة بزمام السلطة الفعلية والتي تدير البلد عبر المؤسسات الدستورية أحياناً، متى كان ذلك ملائماً لها، وخارج تلك المؤسسات أو رغماً عنها أحيان كثيرة.
التمسك بالسلطة بشتى الوسائل، على نهج نيكولا ماكيافيلي، هو السمة السائدة عند جميع القوى المشاركة فيها، ولهذا الغرض جميع الوسائل المتاحة تكون مباحة. من استعمال ما تبقى من موارد عامة إلى استخدام المرافق العامة المسيطر عليها بواسطة محازبين لخدمة المؤيدين، إلى شنّ الحروب الإعلامية وحملات التشهير والاتهامات بالفساد، إلى الاستنهاض عبر الشحن الطائفي بالاتجاهين وتعزيز الشعور بالخوف من الآخرين أو بالتفوق عليهم، وصولاً إلى إراقة الدماء عندما تتعطل السبل الأخرى.
يضاف إلى ذلك كله موضوع السلاح. فقد ثبت بعد الأحداث المتعددة وآخرها موقعة الطيونة، أن السلاح خطر وجودي يهدد لبنان، وقد ظهرت القدرة على استعماله بشكل كبير والاستعداد لذلك وبالتالي تحويل أي حي سكني إلى ساحة معارك عسكرية. وبالتالي فإنه مما لا شك فيه أن السلم المدني الظاهر القائم بعد العام 1990 لم ولن يتحول إلى سلم حقيقي دائم ما لم تصبح الدولة هي الجهة الوحيدة التي تملك القدرة على استعمال القوة المسلحة. هذه الوظيفة التي تعود للدولة وحدها أصلاً اعتاد اللبنانيون على الشرك فيها، وبسبب تمادي الشواذ في لبنان منذ عقود نسي البعض ما هو الأصل وما هو الصواب. وبنتيجة ذلك إذا قام الجيش مثلاً بإرداء مسلحين يطلقون النار في موقعة كموقعة الطيونة فإن هنالك من يستنكر ذلك ويعتبره اعتداءً.
المشكلة أنه عند انتهاء الحرب العام 1990 لم تكن الدولة هي المنتصر بل مجموعة القوى الطائفية المسيطرة على الأرض والتي لم تكن لتسمح بحصول اتفاق الطائف لو لم تكن ضامنة دخولها المؤسسسات الدستورية وترجمة قواها العسكرية على شكل حصص في المواقع داخل الدولة. ولهذا السبب لم تقم الدولة بصورة فعلية حتى اليوم. ولعل أحد أبرز مظاهر هذه الحالة أن أجهزة الدولة ولا سيما الأمنية منها قد اعتادت الخضوع لمنطق القوى التي سيطرت على الدولة، وهي في الواقع تعلق القيام بواجباتها في حفظ الأمن وقمع المخالفات وتوقيف المرتكبين، على رفع غطاء القوى السياسية الطائفية، عن هؤلاء المخالفين. ونتيجة ذلك أصبح القانون يطبق حصراً على من لا غطاء فوقه وتفاقمت بالتالي الحاجة والرغبة عند كل القوى المسيطرة في تعزيز عناصر قوتها واستقوائها.
كل هذه العلل تزول حين يبدأ التطبيق الفعلي للدستور ويزول النظام المكوّن من ائتلاف القوى السياسية الفاشية ذات التكوين الطائفي القائم على الخوف من الآخر أو التفوق عليه بالسلاح أو العدد، وإحياء النظام الدستوري الذي تكون المؤسسات هي المكان الوحيد الذي تمارس فيه السلطة الحقيقية.