زياد سامي عيتاني*
مطعم وباتيسيري "الجندول" تمكّن في أن يكون مقهى صباحياً للباحثين عن الهدوء، ليتناولوا فطور الصباح من المعجنات والمخبوزات الغربية والشوكولا المحشوة والكعك وخبز الحليب. ومطعماً عائلياً عند الظهيرة، بعدما اشتهر بأبطاق "الصيادية" و"المغربية"، وفريكة بدجاج أو بلحمة، فخاد غنم محمرة، وخاصة "خروف والريز"، ومكاناً للسهر للذين يهربون من الإستسلام للنّعاس والنوم. والأهم من ذلك تمكّنه من النجاح في إغواء العديد من المؤسسات ليقدّم لها طعامه وحلوياته المميزة، بما في ذلك "النجار" في ساحة الشهداء، و"ديليس" في شارع لبنان، و"نابولي" في الأشرفية، وفندق "اكسلسيور" و"الكاف دو روي"، و"بالم بيتش" في عين المريسة، وفي وقت لاحق يفتح أبوابه في فندق برنتانيا في برمانا، ويهتم بحفلات الزفاف والمناسبات الرسمية والمآدب الضخمة.
يذكر أنّه في العام 1958 كان المقهى مقصد قائد ضباط الأسطول الاميركي السادس وكبار معاونيه بعيد وصولهم بيروت العام 1958، فأصبحوا زبائنه اليوميين الرئيسيين.
أما في الستينيات وبداية السبعينيات كان ملتقى دائم للقاءات الساسة والأدباء والصحافيين والفنانين والأكاديميين، فضلاً عن الشباب المتحمس الحالمين بتطبيق أفكارهم وعقائدهم المتنوّعة والمتناقضة.. الذين كتبوا فيه صفحات من تاريخ بيروت، طويت معه...
فبحكم قربه من كليتي الآداب والتربية في الجامعة اللبنانية، تحوّل "الجندول" مقرَّ لقاءات وإجتماعات قياديي الحركة الطلابية عهد ذاك، حيث كان يقصده طلاب من معظم الأطياف السياسية، يتوزّعون على الطاولات بحسب إنتماءاتهم، فتعلو أصوات النقاشات حادة أو هادئة، فيتحوّل إلى فضاء للحراك والحيوية.
وقد وصف الأديب والناقد الإعلامي عقل العويط تلك اللقاءات التي كان يشهدها "الجندول"، قائلاً:
"عشيّة العام 1972، إلتقينا فيه، أسرابا متنوّعة من الفتيان المعلومين المجهولين الأشاوس الحالمين النبلاء العشّاق الشعراء التائهين العزّل والمشّائين، ممهورين بالمواهب والمعايير والفلسفات والأفكار والعواطف والعقول والأشعار..."
"كان ملجأ لاجتماعات ولقاءات، معقودة كلّها على قناطر من أحلام تغييريّة ومشاريعَ وطموحات، وعلى غيوم تهمي لتصنع العشب للربيع. وكان حلقة بل حلقات هادئة وحامية للنّقاش، وللأفكار، وللتباينات والاختلافات، للتنوّعات والمنافسات. وكان كرْما يشبه الكروم التي تقدّم مذاقاتها ومفاتنها للعابرين والمستظلّين والتوّاقين. لكنْ من دون أنْ يبيح كرامته لأحد، ومن دون أن يكون مستباحا..."
**
بالرغم من أنّ سنوات الحرب لم تتمكّن من أن تنال من هذا المعلم البيروتي، الذي مرّت عليه ظروف قاسية، تظاهرات وحروب شوارع وأحياء، مدّ وجزر وأزمات اقتصادية.
لكنّه ظلّ يقاوم ليبقي هذا المكان الجميل طوال كلّ هذه السنين عنواناً للذواقة وملتقى للنخب، لكن العملاء (الرواد أو الزبائن) الأصغر سناً إنجذبوا نحو الجميزة ومار مخايل، فيما إستمر النظاميون والهواة فقط في التردّد على La Gondole، الذي قاوم المنافسة الشديدة من مواقع جديدة للحفاظ على ذكريات وذوق لبنان القديم على قيد الحياة.
حتى الأيام الأخيرة والتي سبقت الإغلاق المادي للمنشأة، بقي مارون الذي عايش حقبات تاريخية بيروتية عدة، يداوم على الذهاب إليها يومياً، كعادته بشكل يومي، حيث يستقبل أصدقاءه بأناقته المعهودة - بالمعنى الحرفي والمجازي - لتناول طعام الغداء والمشاركة مع نفس الذكريات الحماسية والأطباق والحلويات التي جعلت من مطعم La Gondole يكتسب شهرته الواسعة، دون أن تنسيه السنين أيّ تفصيل من متجره، حيث كان يمكنه أن يضع على كراسيه إسم شخصية احتلتها ، سياسي أو صحفي أو رجل أعمال أو طبيب أو فنان"...
لكنّه في نهاية المطاف إتخذ القرار المؤلم بالإقفال النهائي، بعد مضي سنتين على مقاومة الفكرة التي كانت تراوده، حيث كان لا يزال لديه أمل في البلاد، إلى أن اقتنع أن عالم المطاعم لم يعد كما هو، والزبائن تغيّر مزاجهم ومذاقهم، وحتى بيروت وكورنيش المزرعة لم يعودا كما عهدهم، فأجبر على إتخاذ أصعب قرار في حياته!!!
**
مع إقفال La Gondol، إنطوت صفحة من تاريخ بيروت تاركة وراءها ذكريات رائعة وقصصاً جميلة لأناس حفروها على طاولاته، إضافة إلى غبار المرارة،
وشعور بالنفي، مثل الشعور الذي نشعر به في مواجهة تدمير مبنى جميل وقديم أو إختفاء معالمنا وتراثنا!!!
وأبلغ ما يمكن أن نختم فيه الكلام عن "الجندول" تحسراً، ما قاله ميشال الدويهي:
"مع تسكير مقهى الغندول يتبخّر جزء من ذاكرة بيروت. المقاهي هي روح المدن وبهذا المعنى بيروت بحاجة إلى استعادة روحها ولإعادة انتاج هويتها الثقافية كعاصمة أولاً، ودورها كمدينة للانفتاح والتسامح والتنوّع والحريات ثانياً..."
**
-إنتهى.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي