الدكتور هاشم الأيوبي
قبل خمسين سنة تماماً ، أي سنة 1972 ، وكنتُ يومها أحضّر الدكتوراه في ألمانيا ( الغربيّة إذذاك ) ، كانت ألمانيا تعيش عرساً رياضيّاً دوليّاً ، حيث كانت تستضيف الألعاب الأولمبيّة في ميونيخ وللمرّة الأولى بعد الحرب العالميّة الثانية. وكانت الحكومة الألمانيّة حريصة على أن يكون هذا الحدث الرياضيّ صفحة جديدة في تاريخها فبذلت أموالاً طائلة وجهوداً كبيرة لإنجاحه .
يومها قام الفدائيون الفلسطينيّون بعمليّتهم المعروفة ضدّ الفريق الرياضي الإسرائيلي ، وحبست ألمانيا أنفاسها ، وكذلك العالم ، بعد أن توقفت أعمال الأولمبياد وتركزت الأنظار على شاشات التلفزة تتابع العمليّة التي هزّت يومها العالم ، وكانت مجرياتها المعروفة .
يومها بدأ الإعلام الألمانيّ حملة شعواء ضدّ العرب وكان لهذه الحملة أثرها في الشارع الألماني الذي اعتبر أنّه أصيب في الصميم . فتشت الشرطة غرف الطلاّب العرب وكان علينا الاتصال بقسم الشرطة القريب منّا بشكل دوريّ لإثبات وجودنا .
لكنّ حركة الطلاّب الألمان رفضت ممارسات الشرطة ضدّ الطلاب العرب وحذّرت من تنامي الشعور العنصري والنازيّة . وكان لموقف الطلاب هذا أطيب الأثر في نفوسنا .
ويومها " تطوّع " بعض الطلاب الألمان ومعهم طلاب باكستانيون وإيرانيون وأتراك بإحضار ما نحتاجه إلى غرفنا ،نحن الطلاب العرب ، حتى لا نتعرض لمضايقات . لكنّ زميلاً باكستانياً وآخر إيرانيّاً تعرضا لهذه المضايقات ظنّاً أنهما عرب .
ولكنّ الموقف الذي كان له الأثر الأكبر في تهدئة النفوس كان حين أطلّ المستشار الألمانيّ فيلي براندت من على شاشات التلفزة ليخاطب الألمان : أوقفوا نشر هذا العداء ضد العرب . العرب ليسوا أعداءنا . العرب أصدقاء لنا .
اليوم العرب يحيون أرقى عرس رياضي وتستقبل قطر مهرجان كأس العالم بكلّ انفتاح حضاري وبكل تنظيم عجزت عنه أكبر الدول وبكلّ صدر رحب للجميع ، حتّى الإسرائيليون كانوا حاضرين . صحيح أنّ عربيّا واحداً لم يبتسم لهم ، فعلى أيديهم دماء طازجة لشباب فلسطينيين . ولكن لم يحصل أيّ اعتداء أو حتى إزعاج لأيّ إسرائيلي .
اليوم لا عملية فدائية تعكر صفو الألمان ، ولا أيّ موقف يسيء لهم ، فما الداعي لهذ الجوّ الإعلاميّ العدائي ضد العرب من وسائل الإعلام الألمانيّ ؟!
ما الداعي لأن يشوّهوا سمعة الفريق الألماني الذي كان له جمهوره الكبير بين العرب ، وأنا واحدٌ منهم ، ليقوم بحركات تسيء إلى قطر وإلى العرب الذين يحترمون عادات الآخرين وتقاليدهم وقيمهم الاجتماعية والدينيّة شرط أن يحترم الآخرون عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الاجتماعية والدينيّة .
إنّها مفارقات ألمانيّة عجيبة لا نريد لها أن تنزع من رؤوسنا احترامنا للألمان وتراثهم الثقافيّ وتقديرنا لهذا الشعب الذي ربما وحده من بين الدول الأوروبية لم يكن له تاريخ استعماري عندنا .
ما نريده من أصدقائنا الألمان الذين قضينا بينهم سنوات طويلة وجمعتنا بالكثير منهم صداقات وتشاركنا في مؤتمرات حوارية ناجحة ونحمل كلّ انطباع إيجابيّ عن تلك العلاقات ، ما نريده منهم أن لا يدعوا لأجواء الكراهيّة التي لا مبرر لها أن تسيطر على عقول الكثيرين من خلال الإعلام الذي يمسك به المعادون للعرب والذين لا يريدون للشعوب أن تتلاقى لمصلحة السلام والتقارب اللذين يعودان بالخير للجميع .