لبنان الكبير - زياد سامي عيتاني
يتذكر اللبنانيون في 23 أيلول من كل عام – اليوم الوطني السعودي – الدور الريادي للمملكة التي لا تتوقف عند حقد، ولا تتطلع إلا الى خير بلدهم، فيشاركون أشقاءهم السعوديين فرحتهم بعيدهم، تعبيراً عن وفائهم لكل ما قدمته المملكة للبنان، لا سيما في الظروف العجاف، فضلاً عن استقبال اللبنانيين في ربوعها، فاتحة لهم مجالات العمل والرزق. بين لبنان والمملكة العربية السعودية تاريخ عريق وطويل من العلاقات الأخوية على مستوى الشعبين وقيادتي البلدين، التي تأسست مع توحيد الملك عبد العزيز المملكة وتأسيسها (حتى قبل الاعلان عن دولة لبنان الكبير)، ولم تنقطع أو تتبدل، لا بل بقيت ولا تزال في تطور دائم على المستويات كافة.
لعبت المملكة على الدوام دور الشقيق الأكبر لبلد التناقضات المتخبط بمشكلات لا تنتهي، بحيث كان لبنان يجد الحضن الدافئ والزند الذي يتكئ عليه خلال أزماته وحروبه، ويكفي أن لها الفضل الأكبر في وقف الحرب الأهلية، عندما إستضافت النواب اللبنانيين، لإبرام إتفاق وطني في ما بينهم، أطلق عليه “إتفاق الطائف” الذي أقر لاحقاً دستوراً للبلاد.
وفي هذه المناسبة، يسلط موقع “لبنان الكبير” الضوء على أبرز المحطات المضيئة بين البلدين الشقيقين:
المؤسس يستعين بالخبرات اللبنانية:
قبل إستقلال لبنان، استعان الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود (1932 -1953) بالخبرات اللبنانية، وبالخبراء والمستشارين أصحاب الفكر والرأي وحسن الادارة للافادة من كفاءاتهم في توطيد مداميك فلسفة ونظام عمل مؤسسات المملكة العامة والخاصة، بحيث كان للبنانيين مكانة خاصة ومتقدمة في الديوان الملكي، كذلك عمل عدد منهم سفراء للمملكة في دول مهمة. وكان اللبناني فؤاد حمزة بين هؤلاء المستشارين الذين أمضوا عقوداً من العمل السياسي في السعودية. كذلك إستعان الملك في ذلك الحين بالمهندس اللبناني موريس الجميل، بهدف الحصول على خبرته في مجال المياه، بحيث كانت شبه الجزيرة العربية تشكو من ندرة الأمطار وفقدانها الأنهار والينابيع، وهو الذي أوعز بإنشاء السدود والبحيرات الاصطناعية لتوفير مياه الأمطار في موسم الشتاء. ولا بد من التذكير في هذا السياق، بأن المفكر والأديب اللبناني أمين الريحاني كانت له زيارات عديدة إلى السعودية، فروى وكتب الكثير عن الملك عبد العزيز وعهده.
دعم عبد العزيز إستقلال لبنان:
بعث الملك عبد العزيز آل سعود في أيار عام 1943 برسالة إلى رئيس الكتلة الاسلامية في لبنان محمد جميل بيهم، مؤكداً دعم المملكة ومساندتها لاستقلال لبنان عن الاستعمار الغربي. يذكر وقتها أن اللبنانيين انقسموا إلى فئتين، الأولى من الطائفة المسلمة التي كانت تتطلع إلى تحقيق الاستقلال الكامل، والتخلّص من الاستعمار، والأخرى من الطائفة المسيحية، وكان هدفها أيضاً الاستقلال، لكن في ظل حماية فرنسية. وعندما وقعت أزمة بين الحكومة اللبنانية والانتداب الفرنسي في تشرين الثاني 1943، طالبت المملكة بإطلاق سراح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء والنواب المعتقلين.
العصر الذهبي بدأ مع شمعون:
تزامن غياب المؤسس وتولي ابنه الملك سعود العرش في العام 1953، مع وصول كميل شمعون إلى سدة رئاسة الجمهورية اللبنانية في العام 1952. وفي عهده تقاربت دولتا لبنان والسعودية في ما بينهما، وتباعدتا عن مصر، وزاد التباعد خلال أحداث لبنان في العام 1958 التي دامت بضعة أشهر وأسفرت عن انتخاب رئيس جمهورية لبنانية جديد بشخص فؤاد شهاب خلفاً لكميل شمعون. ويمكن القول، ان شمعون فتح مرحلة التعاون الرسمي الوثيق بين الدولة اللبنانية والمملكة، حين زار الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، على رأس وفد رفيع. ومنذ ذلك الحين، بدأ اللبنانيون يتوجهون إلى المملكة بقصد العمل فيها، وقد جنى البعض منهم ثروات كبيرة عن طريق تعهد اعمار المناطق السعودية، واعتاد السعوديون زيارة لبنان للراحة والاصطياف والطبابة والعلم.
دور السعودية في وقف الحرب اللبنانية:
إنتهجت السعودية حيال حرب لبنان سياسة تقوم على قاعدتين: أولاهما عدم الانحياز إلى فريق على حساب فريق آخر والوقوف على مسافة متساوية من كل الفرق. ثانياً عدم التورط في الصراع العسكري والتوسط فقط عندما تتضح احتمالات التسوية السياسية. واعتمدت المملكة هذه السياسة على مدار خمسة عشر عاماً، فلم تسلح أو تمول أو تدعم طرفاً في وجه الأطراف الأخرى. وكان القدر الأكبر من المساعدات يرسل إلى الشرعية اللبنانية، التي كانت المملكة ترى فيها المرجع الصالح والجامع لكل اللبنانيين، من هذا المنطلق ساعدت العهود اللبنانية على اختلافها وساندتها. في المقابل كانت السعودية تحجم حين تشتد وطأة الاقتتال بين اللبنانيين أو بينهم وبين الفلسطينيين والسوريين، وتتقدم حين تبرز معالم إرادة داخلية أو خارجية في ايجاد تسوية متوازنة لصالح كل المتنازعين. وقد تولت هذه المهمة ثلاث مرات: المرة الأولى في العام 1976، والثانية في العام 1982، والثالثة في العام 1989.
– المبادرة الأولى في تشرين 1976 اثر دخول الجيش السوري إلى لبنان. فقد تمكنت الديبلوماسية السعودية، بناء على طلب من الرئيس اللبناني الياس سركيس، من عقد قمة عربية مصغرة في الرياض ضمت إلى السعودية كلاً من مصر وسوريا والكويت ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد لعب الملك خالد وولي العهد الأمير فهد أدواراً رئيسة في انجاح تلك القمة حين توصلا إلى مصالحة الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات بعد يوم من بدء أعمالها. وأعطت المصالحة ثمارها الفورية فتوافقت قمة الرياض على مضمون مشروع السلام اللبناني الذي تقدم به الياس سركيس عبر أربع نقاط أساسية: وقف القتال على أساس تطبيق اتفاقية القاهرة، عدم تدخل المنظمات الفلسطينية في شؤون لبنان الداخلية، تشكيل قوة ردع عربية بأمرة السلطات اللبنانية وتقديم مساعدة اقتصادية عاجلة لاعادة تعمير لبنان. وفي العام 1978، رعت المملكة مؤتمر بيت الدين لاحتواء الموقف المتفجّر آنذاك بين القوى المسيحية وسوريا في لبنان.
– جاءت المبادرة السعودية الثانية اثر اجتياح إسرائيل لبنان في العام 1982 وتحت وطأة حصار بيروت المدمر واصرار الحكومة الاسرائيلية على اخراج الفلسطينيين المسلحين من لبنان. وكان يدير المفاوضات المعقدة بين لبنان وسوريا وإسرائيل الموفد الرئاسي الأميركي إلى الشرق الأوسط فيليب حبيب الذي كان يستعين في عدد من الأمور الحرجة بالمملكة التي آلت مقاليد العرش فيها إلى الملك فهد في 13 حزيران 1982، أي بعد أيام معدودة على اجتياح إسرائيل لبنان.
وعملت الديبلوماسية السعودية على خطين:
1. تأمين خط انسحاب آمن للمقاتلين الفلسطينيين المحاصرين في بيروت لوضع حدّ للعمليات الحربية الإسرائيلية.
2. التعامل ببراغماتية مع الوقائع الجديدة من خلال استضافة قائد “القوات اللبنانية” بشير الجميل، المرشح الرئاسي الوحيد، من أجل إيجاد حلّ للوجود العسكري والمدني الفلسطيني، وحصره بالمخيمات. وأسهمت هذه الزيارة بحدود معينة في اخراج الفلسطينيين من بيروت، وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، لكنه سرعان ما اغتيل في 14 أيلول من العام 1982، وحل محله شقيقه أمين الذي لم يسلم الجمهورية عند انتهاء ولايته في العام 1988 من دون انتخاب خلف له، وعيّن العماد ميشال عون رئيساً لحكومة مؤقتة مؤلفة من عسكريين.
وباشر العماد عون حكمه باعلان الحرب على “القوات اللبنانية” الحليفة له، ثم أتبعها باعلان “حرب التحرير” على سوريا، فشهدت المناطق اللبنانية، أسوأ حالات الدمار والهجرة!
هذه التطورات الدراماتيكية والكارثية التي بلغها لبنان، دفعت المملكة الى التدخل بعد اجراء اتصالات واسعة تركزت على واشنطن ودمشق، فكانت المبادرة الثالثة والأهم على الصعيد اللبناني، اذ دعت السعودية النواب اللبنانيين الى الاجتماع في مدينة الطائف في 30 أيلول من العام 1989. وطرح حينها وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل على المجتمعين في الطائف مشروع اتفاق يتألف من ثلاثة عناوين رئيسة: وقف الحرب، الاصلاحات السياسية، والعلاقات المميزة مع سوريا. وتبين أن هذا المشروع جرى التداول فيه مع البطريرك الماروني والفاتيكان. وبرز في الطائف رجل لعب دوراً مهماً في لبنان هو رفيق الحريري. كما لعب الأمير سعود الفيصل دوراً مميزاً في تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر، وطمأنة المتخوفين والتخفيف من تعنت المتشددين، وعرف أن يكسب ثقة الأطراف كلها. وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من المداولات الصعبة وافق النواب على “وثيقة الوفاق الوطني”، التي أنهت حرب لبنان، وأسست لقيام الجمهورية الثانية.
المساهمة في إعادة نهضة لبنان واعماره:
ما بين العامين 1989 و2005 تعاظمت إسهامات المملكة سياسياً ومالياً، من أجل مسح آثار الحرب وتعمير ما تهدّم، خصوصاً في عهد حكومات رفيق الحريري، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة بقادة المملكة، الملك فهد بن عبد العزيز ( 1982- 2005)، ووليّ عهده الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بحيث قدمت المملكة المساعدات والايداعات المالية، لدعم خزينة لبنان، في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية المتكرّرة، ولتغطية أعباء الديون المتراكمة، ودعم سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار بواسطة البنك المركزي.
هذه بعض المحطات المضيئة والمشرقة من التاريج المجيد بين السعودية ولبنان منذ زمن المؤسس الملك عبد العزيز حتى “إتفاق الطائف”، ولا تزال العلاقة الأخوية المتينة بين البلدين الشقيقين، ثابتة وراسخة وضاربة جذورها في عمق التاريخ المشترك، ومثالاً ونموذجاً حضارياً وحيوياً لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدولة العربية قاطبة.