ثقافة

أندريه صاصي.. عاشق صيدا وتراثها ..نقرأها في كتاب شغفه .. حكاية حب وانتماء !

تم النشر في 18 تشرين الثاني 2024 | 00:00

لطالما كانت من الأوقات الأحب الى قلبه تلك التي يعود فيها الى مدينته صيدا ، طفلاً وفتى وشاباً ويافعاً وطبيباً وباحثاً وكاتباً لسيرتها الذاتية ، تاريخاً وتراثاً وانساناً ..

كنتَ تصادفه في احدى ساحاتها او أحد معالمها او احيائها التراثية ، انطلاقاً من " خان صاصي " محطته الدائمة في المدينة حيث بيت العائلة وذاكرتها ، مرافقا لوفد سياحي او مصطحباً لضيوف يعرفهم على صيدا فيرونها بعينيه وسعة اطلاعه وتعمقه بتاريخها ، او موقعاً لكتاب من كتبه عنها ، او مشاركاً في نشاط ثقافي أو تراثي فيها . 

كنا نقرأها في كتابه حكاية تاريخ وحضارات وتفاعل ثقافات وارثاً انسانياً لا ينضب .. فأصبحنا نقرأها في كتاب شغفه حكاية حب وانتماء.. عاشقاً لتراثها ومنادياً بالحفاظ عليه .. وعاملاً دائماً على مد ذلك الجسر بين ذاكرتها وحاضرها ومستقبلها ..

من صيدا واليها 

البرفسور والكاتب الدكتور أندريه كابرييل صاصي إبن العائلة الصيداوية العريقة، غيبه الموت السبت عن عمر ناهز الثمانين بعد صراع مع المرض وبعد مسيرة عطاء طويلة في حقول العمل الإنساني والثقافي والتراثي .

رغم انه ابصر النور في بيروت ( العام 1944 ) الا انه بقي قلباً وفكراً متعلقاً بصيدا حيث جذور العائلة والأمكنة التي قاسمته وبيروت مراتع الطفولة والصبا، في كنف عائلة ربي فيها على الإيمان والقيم الإجتماعية والإنسانية والوطنية ، وتعلم منها ثقافة الإنفتاح على الآخر والتواصل والتفاعل معه ومع جميع الناس بكل تنوعهم.. عاش هذه القيم ومارسها نمط حياة والتزام الى جانب إخوته جان كلود وأنطوان وروبير، يجمعهم حب الله وحب الإنسان وحب الوطن وهو ما تميزت به عائلة صاصي..

تزوج من السيدة كريستيان صايغ وأنجبا "جان بول وباتريك" اللذين يسيران على خطى الوالد وبكنف الوالدة مزودين بقيم العائلة وتراثها الإنساني .. تلقى علومه في مدرسة IC في بيروت، ثم تخصص بطب الأسنان من جامعة القديس يوسف في بيروت. وتابع تخصصه في فرنسا. ثم عاد ليعلّم في الجامعة اليسوعية لأكثر من ثلاثين عاماً ، حتى أصبح أستاذ شرف بطب الأسنان فيها. أسهم كعضوٍ فعال في نقابة أطباء الأسنان بدفع النقابة نحو مزيدٍ من التطور والتنظيم.استهوته صيدا وتراثها ، فكتب فيها ولها عدة مؤلفات مثل "ذكريات المشرق Chroniquedu levant 2019 ، على خطى المسيح في الجنوب 2022" وكان آخر كتاب له حول قصر وخان آل صاصي والذي كان يضع عليه لمساته الأخيرة .

شارك الراحل منذ صباه في أنشطة اجتماعية وإنسانية عديدة. فكان عضواً في الكشافة زهاء 15 سنة. ثم التزم بالصليب الأحمر اللبناني في بدايات الحرب اللبنانية مجسّداً قيم المساعدة والتضحية لوطنه وشركائه في الوطن. وشارك في النادي اللبناني للسيارات والسياحة (ATCL) كعضو سابق في مجلس إدارته ، حيث نظم العديد من الراليات. وتميز بتنظيم رالي المرأة عام 1973 كأول مسابقة من نوعها للنساء في الشرق الأوسط.

ظهيرة الأحد 17 تشرين الثاني ، عاد اندريه الى صيدا للمرة الأخيرة.. لكنه لن يغادرها بعد اليوم وسيبقى مقيماً في ذاكرتها إبناً وعلماً ونتاجاً تعتز به ، كما لم تغادر هي يوماً قلبه وعقله ووجدانه..

جثمان الراحل شيّع الى مثواه الأخير في جبانة الروم الكاثوليك في المدينة حيث وُري الثرى في مدافن آل صاصي بمأتم اقتصر على العائلة يتقدمهم شقيقاه رئيس مؤسسة صاصي السيد أنطوان والسيد جان كلود صاصي وبعض الأصدقاء، بعدما ترأس راعي ابرشية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك المطران ايلي حداد صلاة الجناز لراحة نفسه في كنيسة المخلص في الأشرفية في بيروت يعاونه كاهن الرعية الأب جهاد فرنسيس .

المطران حداد

ورثى المطران ايلي حداد الراحل اندريه صاصي فقال:" لم يمر عام على وداع المرحوم روبير حتى تصاب العائلة ونحن جميعا بفقدان الأخ والصديق الدكتور أندره صاصي. نتطلع إلى الموت بنظرة العائلة المسيحية المؤمنة التي أعطتنا شهادة حيّة حول الإيمان بالقيامة رغم الحزن والدموع. فالرجاء هو عنوان آل صاصي الأعزاء. فنعيش وإياكم أحبائي هذا الرجاء بفقدان عزيزنا أندريه اليوم وروبرت بالأمس فيتحول حزنكم وحزننا إلى رجاء القيامة والانتصار".

وأضاف :" عبّر أندريه عن إيمانه بالله بنظرته القريبة من الإنسان كل إنسان. قلما نظر إلى دين أو لون أو ثقافة بل صار كلا للكل ليربح الكل. لم يبخل بإعطاء وقته ليشترك في نشاطات عديدة ملخصها التنمية والانسان والكنيسة والوطن. فكان في طليعة المساعدين في مواجهة كل مصائب البلاد وكان حصة الفقراء دوماً. عزّز انطلاقة جمعية "على خطى المسيح في الجنوب" وزوّدها بمعرفة موضوعية عميقة لأرض الجنوب ومعالمه الأثرية.. كانت علاقته بصيدا علاقة انتماء ومعرفة. إذ أعطى مدينته جزءا كبيرا من قلبه ووقته. سيكون أندريه معنا حاضراً عندما نقرأ كتبه، لأنه شخص لا ينسى وسيبقى حاضراً بفكره ومحبته".

وتابع المطران حداد:" إنضم أندريه إلى مسيرة آل صاصي في مساعدة مدرسة "سان نيكولا " التابعة لأبرشية صيدا في عين المير ، وأحيا نشاطات عديدة في هذا الإطار. لقد ترك المرحوم أندريه إرثاً إنسانياً وفكرياً كبيرين وسيتذكره أهله وأصدقاؤه وكل من التقوا به. وفي أواخر حياته أصابه المرض الخبيث. فلم يهز عنفوانه ولا كبرياءه بل عقد النية على مواجهة الظرف القاسي بالإيمان والموضوعية والرجاء".

وخلص المطران حداد للقول :" لعل لقاءنا اليوم حول جثمان فقيدنا هو لقاء صلاة. بالصلاة نشكر الله على مسيرة الدكتور أندريه. ثم نطلب شفاعة إلهنا أن يريح نفسه مع القديسين. نصلي أيضا وأيضا من أجل لبنان الجريح الذي أحبه الدكتور اندره. ذهب الراحل وفي قلبه غصة كبيرة بأن وطنه ما زال جريحاً. أندره كان رجل سلام ويرقد اليوم بسلام ..".

كلمة العائلة

وألقى نجل الراحل الأستاذ جان بول صاصي كلمة رثاء بإسم العائلة قال فيها : أبي .. يا خير سلف ايها العبقري.. عبقري في طريقتك في الإبداع ، في التنظيم في التواصل، وقبل كل شيء في المحبة. لقد كنت مؤسساً بكل معنى الكلمة. سواء في نقابة أطباء الأسنان، أو في كلية طب الأسنان في جامعة القديس يوسف، او في الـ ATCL.. لقد تركت بصمة لا تمحى. ألهمت روحك المنهجية وسعيك لتحقيق التميز كل أولئك الذين حالفهم الحظ في عبور طريقك... كنت عالمًا، وهاويًا للتاريخ، ومحبًا لا يشبع للغة الفرنسية. إن أعمالك في صيدا تشهد على ارتباطك العميق بهذه الأرض وجذورها. حكيت لنا عن لبنان وصيدا، هذه المدينة التي أحببت والتي استكشفتها في كل زاوية وركن، والتي رويت كل قصة عنها بشغف معدي. لقد غادر أخوك روبرت في نفس العام، بعد أن شاركك في العيادة لأكثر من 40 عامًا. لقد كانت قصة عائلة، شجرة عائلة، تقاليد ومبادئ راسخة. بعد حياة مزدحمة، مررت بثلاث سنوات صعبة. لكن على الرغم من التجارب، وجدت القوة للشروع في مشروع أخير: كتاب عن تاريخ عائلة ومنزل ومدينة، كتابك...".

وختم بالقول :" أبي.. سنفتقدك، لكن إرثك هائل وسيعيش من خلالنا..".

هذا وتتقبل عائلة الراحل التعازي الإثنين 18 -11-2024 بين الساعة 11:00 صباحًا و6:00 مساءً في صالون كنيسة المخلص للروم الملكيين الكاثوليك في شارع مونو – الأشرفية - بيروت .

رأفت نعيم